كان العراق يرزح تحت نير الاستعمار والتسلط الأجنبي منذ استيلاء الأتراك على مقدراته السياسية حتى انبثاق ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة 1958م وكان المجتمع العراقي يقسم إلى طبقات تتباين في تكوينها الاجتماعي بحسب الوضع الاقتصادي الذي تعيش فيه، ففي المجتمع الريفي تسلط الإقطاعيون على رقاب الفلاحين واستغلوا جهودهم لتحقيق المكاسب المادية، والسيطرة على الأراضي الزراعية، وفرضوا على الفلاحين قوانين العمل بما يكفل مصالحهم وينمي مواردهم، فكان لمالك الأرض غالبية الأرباح ولا ينال المزارع ألا النزر اليسير، الذي لا يقوم بأوده ولا يسد رمقه، ولا يفي بحاجاته اليومية، لذلك نلاحظ البون الشاسع بين حياة الفلاحين البائسة وحياة الملاكين المترفة، فنشأ جراء ذلك فارق طبقي حاد بين الاثنين، مما أدى إلى تفاقم المشكلة وتوسيع الشقة بين طبقات المجتمع. وكان لبعض لرجال الدين الذين اتخذوا الدين سلعة لتحقيق مأربهم على حساب الطبقات المستغلة أثره في نشر المفاهيم الدينية الخاطئة، بما أذاعوا من سنن وتعاليم تتناقض ومبادئ الدين الحنيف، فروجوا للفكر الخانع ونشروا المفاهيم الداعية إلى القبول بالواقع وعدم السعي لتغيره لأنه من الإرادة السماوية التي لا يجوز مقاومتها والثورة عليها. والشعر انعكاس للواقع وصورة ناطقة للوضع الاجتماعي المعاش، لذلك نلاحظ أن الشعر الشعبي والدارمي خاصة طرح مفاهيم وأفكار تباينت في تفسير الواقع وسعت لتغييره ضمن إمكاناتها الخاصة، لذلك كان الدارمي هو المعبر الأصيل عن هموم الإنسان ومعاناته وقد حفل بالكثير من النماذج المعبرة عن التمايز الطبقي، وأشكال الظلم والتعسف التي عانى منها الكادحون وقت ذاك.
ومن النصوص المعبرة عن المعاناة من استغلال الإقطاعيين والملاكين للطبقات الفلاحية ما عبر عنه هذا الدارمي الذي يصف الحالة العامة للفلاح العراقي، فالفلاح الذي يعمل ليلاً ونهاراً في كري الأنهار وزراعة الأرض وحصادها يشاركه في ذلك أفراد عائلته، ناظراً إلى السماء لتجود بغيثها يترقب ويعد الأيام والشهور ليحين موعد الحصاد ويجني ثمار أتعابه وجهوده، وبعد الحصاد وتقسيم الحاصل يفاجئه الواقع المر المتمثل بحصة الملاك التي تتجاوز نصف المحصول، وكلفة البذور وخمس السادة والعقر والضرائب والزكاة وحصة الكيال ومضيف الشيخ وديون المواد العطارية كالشاي والتبغ والقهوة وما يستجد من أمر أخرى فتكون النتيجة أنه مدان إلى الملاك بما يوازي عمله لسنين، وعليه تسديدها في العام القادم وهكذا يكون مشدوداً إلى عجلة الملاك والمرابين حتى الموت، لذلك نلاحظ أن الكثير من الفلاحين هجروا الأرض هرباً من تسلط الإقطاعيين، وسكنوا المدن الكبيرة، ومارسوا الأعمال الحقيرة، وعانوا كثير من البؤس والحرمان والفاقة حتى انبثاق فجر النور والحرية.. فجر الرابع عشر من تموز1958حيث نعم الشعب بالخير والرفاه وصودرت أراضي الإقطاعيين بقانون الإصلاح الزراعي ووزعت على الفلاحين وبذلك انطوت صفحة كالحة من الظلم والتسلط.
شنطيله شنطي البيت |
|
شنطي الحميــدي
|
وأخرى تصف أحد الفلاحين بأنه يعمل (بأكل بطنه) ولا يملك من متاع الدنيا شيئا، وتصف حالته البائسة، وملابسة المهلهلة، وعدم قدرته على احتذاء حذاء(حافي)والحافي تعني المفلس أيضاً ولكنه رغم حالته المزرية، وذله واستخذائه، يحاول فرض سيطرته عليها، وانعكاس ما يعانيه على معاملته القاسية، تقول:
يحصد عله خريطـاه |
|
ويـه وجعـة أمـي |
وآخر يصف حالته المزرية، وما يعانيه من الظلم جراء الموقف الاستبدادي لمالك الأرض، فهو في حيرة من أمره؟ هل يشتري غطاء لرأسه، أم يفي الدين، ويدعوا الله أن يسلط ناره الحامية على داره لتحرقه بما فيه:
مدري أشتريلي أشماغ |
|
مدري أوفي عجـه |
وأخر بصف الحالة المأساوية للفلاح العراقي ويصف جشع الإقطاعيين وتسلطهم، فالمالك له الثلثان والله له الثلث وأن ثلث الله له أيضاً كأنه مدان له، وهذه الحالة هي السائدة في العراق أبان العهد المباد ومن الأهازيج المشهورة(ثلث الله وثلثين الماضي):
الله بثلث يـــــا نـاس |
|
والمـاضي ثلثيــن |
وأخر يصف تسلط (السراكيل) وهم وكلاء الملاكين، في أدارة الأرض وزراعتها، ولهم اليد الطولي في الاستغلال البشع الذي عان منه الفلاح العراقي، ويقول أني أشعر بآلام مبرحة في داخلي من وكالة فرهود التي أخذت كل شيء فلم أنل غير الألم والإجهاد:
من سركلـة فرهـــــود |
|
توجعنـي بطنــي |
وأخر يصف الظلم والتعسف الذي أحاق به ويتضرع إلى الله أن ينظر إليه بعين رحمته، فقد غبنت حقوقه بهذه القسمة الجائرة، حيث أستحوذ الملاك على كافة المحاصيل ولم يترك لهم ما يسد رمقهم:
چا وينه رب الكون |
|
مـا ينــــظـر ألنه |
وتوجه آخر إلى الخالق العظيم، متوسلاً إليه أن يحيل أراضيه إلى سبخ لا يصلح للزرع، لأن الملاك أخذ كل شيء:
ريت الله واطه الگـاع |
|
سواها صبخـه |
وهذا الفلاح يتمنى أن يكون حاصلة كالسم النقيع في أحشائهم، لأن أتعابه ذهبت أدراج الرياح:
كون الزرعته أيصير |
|
سم أبطنــــهــم |
وهذا يصب جام غضبه على الملاك، ويكيل له السباب لأنه ظالم وقد سرق حقوقه:
نعله أعله أبو الملاچ |
|
لا بو اليحبـــه |
وأخرى تشكو ما أحاق بعائلتها من ظلم وإجحاف بعد أن طردوا من أرضهم في وقت بدأ الزرع بالنمو وآن حصاده:
شنهو السبب مطرود |
|
يلزرعــــك أزرگ |
ويبدوا أن طرد أهلها من أرضهم المزروعة جاء نتيجة حكم ظالم لما يسمى ب"العارفة" الذي قرض حكمه الجائر بعيدا عن العدالة:
شنهو السبب مطرود |
|
يلزرعــــك أزرگ |
ولم أجد في النصوص الكثيرة التي تحت يدي ما يشير إلى هذا الصراع الدامي في القطاع العمالي، ما يؤكد أن انتشار هذا الشعر في الأوساط الريفية دون العمالية، لأن الوعي الطبقي أنتشر في صفوف الطبقة العاملة قبل الفلاحين، ويثبت لنا أن جذور الدارمي ريفية فلاحية وأنه أنتقل للمدينة عن طريق التلاقح الاجتماعي للمجتمع الحضري والريفي، ويدلل بشكل واضح على أنه شعر فطري دخلته الصنعة بعد انتشاره وذيوعه بين الناس.