عندما ندرس التاريخ فإننا نتعلم منه عبرة لكي نتجنب الوقوع بنفس الأخطاء التي وقع بها من سبقونا.. ومن الحوادث التي وقعت في التاريخ الحديث ومن المتوقع أن تحدث مرة أخرى بسبب نفس الأخطاء التي ارتكبها بعض الساسة من ذوي الذكاء المحدود، والتي يعيد ارتكابها الساسة الحاليون من عديمي الذكاء، هي كارثة الكساد العظيم التي ضربت الولايات المتحدة والعالم في القرن الماضي.
أثناء الحرب العالمية الأولى التي وقعت في أوربا بين عام 1914 وعام 1917، تدمرت كل مصانع ومزارع أوربا وتعرضت البنية التحتية إلى دمار هائل. بينما الولايات المتحدة الأمريكية كانت بعيدة عن أرض المعركة، ولذلك اشتركت بالحرب في آخر سنة بجيشها فقط وحصلت على حصة الأسد من الغنائم بينما أراضيها ومصانعها ومزارعها وبنيتها التحتية سلمت من الدمار ولم يمسها أي ضرر.
وبذلك كان على الدول الأوربية أن تبذل الكثير مما تبقى من مواردها وطاقة أبنائها وسنوات عديدة من أجل إعادة بناء مصانعها وبنيتها التحتية وإعادة الحياة لمزارعها التي تحولت لساحة معركة أثناء الحرب.. بينما استمر الامريكان بالإنتاج الغزير والتصدير إلى الدول الأوروبية وبالأسعار التي يفرضوها على الأوربيين، وبذلك حققت الولايات المتحدة أرباحاً طائلة من التجارة مع أوروبا، وتحولت الولايات المتحدة إلى بلد الأثرياء وبلد الفرص العظيمة، حتى أن كل شخص كان يبحث عن الثراء كان عليه أن يسافر إلى الولايات المتحدة ويعمل هناك.
بدأت الطبقة العاملة في الولايات المتحدة، ولأول مرة، تحصل على مرتبات لا بأس بها ونسبة البطالة صفر أو قريبة من الصفر.. وكان المنتجون يبيعون سلعهم للمستهلكين الأمريكان بالأقساط.. وبذلك حصل أي مواطن أمريكي على سكن ملكية خاصة وسيارة وتلفزيون وغسالة وأثاث جديد، وكلها بالتقسيط المريح بضمان الرواتب المرتفعة بعض الشيء.. والشوارع الأمريكية كانت مضاءة بفضل الطاقة الكهربائية في ذلك الوقت عندما كانت بقية الدول الأوربية لاتزال تعيش على أضوية الفوانيس والشموع.. حتى كانت غسالات الملابس (ذات الطراز القديم) في كل بيت، والسيارات الشخصية كانت منتشرة بمعدل سيارة واحدة لكل خمسة أفراد في المجتمع.. وكان الأمريكان خلال فترة بداية العشرينات يقيمون الاحتفالات الراقصة بشكل يومي.
وبذلك كانت الرأسمالية الأمريكية تزدهر وأوروبا أكملت بناء مصانعها وموانئها وسككها الحديدية واستعدت للإنتاج والتصدير، بينما كان الاتحاد السوفيتي لا يزال يعاني من جرح الحرب الأهلية.. ولذلك كانت الصحف الأمريكية تركز على تلك الرفاهية وتستهزئ بكلام كارل ماركس الذي تنبأ بوصول الرأسمالية إلى مرحلة الكساد بسبب وفرة الإنتاج وسوء التوزيع.
وفي منتصف العشرينات بدأت أوربا بالإنتاج الغزير وتحقيق بعض الاكتفاء الذاتي، بل بدأت بتصدير بعض السلع إلى الولايات المتحدة.. وشيئاً فشيئاً ازدادت الصادرات الأوروبية إلى الولايات المتحدة وانخفض الاستيراد منها بسبب زيادة الإنتاج وانتعاش الاقتصاد الأوربي بشكل تدريجي.. ولكن ذلك لم يكن جيداً بالنسبة للأمريكان الذين شعروا بأن الطلب على منتجاتهم بدأ ينخفض تدريجياً، مما دفعهم إلى تقليل الإنتاج، وبذلك تسريح جزء من العمال، مما فاقم من الأزمة.. بدأ المنتجون يخفضون أسعار بضائعهم ويخفضون كمية الإنتاج، ونتيجة لذلك أصبحوا مجبرين على تسريح المزيد من العمال، بينما أزمة الكساد تتعاظم.. لاحظ الرسم التوضيحي، حيث أن كل ما قل الطلب الكلي ينخفض الإنتاج فيزداد تسريح العمالة، وتزداد البطالة ثم ينخفض الطلب الكلي مرة أخرى... وهكذا تتفاقم الأزمة.
وأما أوربا فقد تأثرت بالأزمة التي وقعت في الولايات المتحدة، بل لم يكن حال الاقتصاد في أوربا أفضل منه في الولايات المتحدة، حيث انخفض الطلب على سلعهم بشكل مفاجئ بسبب انخفاض الطلب الكلي على السلع والخدمات في الولايات المتحدة، فانخفض الإنتاج في أوربا وانتشرت البطالة بين العمالة الأوربية بالضبط كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية.. كل ذلك كان يحدث والحكومة الأمريكية كانت تنكر وجود حالة كساد، حتى حدث الانهيار الكبير لسوق الأسهم والأوراق المالية بما سمي بالثلاثاء الأسود حين انهارت بورصة وول ستريت وبورصة داو جونز عام 1929 نتيجة الانخفاض الكبير بأسعار الأسهم.. حينئذ لم يكن بمقدور أحد من إنكار وجود أزمة كساد حقيقية..
وهكذا كانت الأزمة تتفاقم أكثر فأكثر مثل الدوامة.. وعلاوة على ذلك، فكل من كان يمتلك القليل من المال 💰 كان يحتفظ به ولا ينفقه، وذلك بسبب الخوف من الأسوأ.. وهذا الشيء أدى إلى تفاقم الأزمة حيث أن النقود اختفت من التداول، والأسعار بدأت تهبط وقيمة العملة بدأت ترتفع.. وبنفس الوقت انتشر الفقر والتشرد بشكل غير معقول.. فتحول أصحاب الفلل والثراء بين ليلة وضحاها إلى مشردين فقراء يتسولون لقمة العيش وينامون في العراء، حيث أن كل ما كانوا يملكونه كان بالأقساط بضمان رواتبهم، وعندما تم تسريحهم، فقدوا تلك الرواتب فتمت مصادرة كل ما كانوا يملكون، والذي كان بلا قيمة، لأن لم يكن هنالك من يشتريها.. وبذلك أفلست البنوك وأفلست المؤسسات المالية وأفلست الدولة.
بدأ الساسة الأمريكان يظهرون على شاشات التلفزيون لكي يكذبوا، كعادتهم، ويخبروا الشعب بأن الأمور على ما يرام والحياة الاقتصادية بدأت بالتعافي، بينما الحقيقة كانت على العكس من ذلك تماماً.. فالطلب الكلي بالاقتصاد كان يستمر بالتدهور والبطالة انتشرت بشكل كارثي.. وبذلك انتشرت الصور في الصحف عن ملايين وملايين المشردين والتي وفرت لهم الحكومة (مشكورة جداً) أفرشة وأغطية لكي يناموا في العراء على (أفرشة) بدلاً من النوم على الأسفلت.. ولكي تكتمل الأزمة جاء الرئيس الأمريكي هربرت هوفر بالموافقة على اقتراح السيناتور ريد سموت عام 1930 بتعريفات جمركية غبية سميت بوقتها بتعريفات سموت هاولي.. حيث تم الإعلان عن رسوم جمركية على السلع الأوربية والكندية من أجل إنعاش الإنتاج الوطني ودفع المواطنين لشراء السلع المنتجة محلياً بدلاً من المستوردة.. ولكن تلك الدول التي كانت متأثرة بالأزمة في الأساس قامت بفرض رسوم عقابية على السلع الأمريكية، مما زاد الطين بلة وأثر على التجارة العالمية وفاقم من الكساد العالمي.. هل تذكركم هذه السياسة بالسياسة الترامبية الحالية؟
لقد أصاب الكساد كل الدول الرأسمالية، بينما الاتحاد السوفيتي كان قد أكمل خطته الخمسية الأولى والثانية وبدأ بالإنتاج الغزير ولم يتأثر نهائياً بذلك الكساد.. بينما جيوش العاطلين في الولايات المتحدة وأوروبا فقد تسلحوا بالأفكار البروليتارية وكانوا يتناقلون كتاب رأس المال والبيان الشيوعي للفيلسوف الألماني كارل ماركس لكي يقرأها كل عاطل عن العمل وكذلك كل عامل مهدد بالبطالة.. لقد ثبت عندهم وعند كل ذي بصيرة بأن الماركسية على حق، وقد تحقق ما تنبأ به كارل ماركس.. وفي ألمانيا وحدها كان هنالك جيش من العاطلين بلغ تعدادهم ستة ملايين عاطل كانوا على أهبة الاستعداد للثورة، وقد قام بعضهم بإعلان العصيان المسلح وانتزعوا السلطة في الولايات الشرقية من ألمانيا.. مما دفع إلى تأسيس الحزب النازي المناهض للأفكار الماركسية كرد فعل على انتشار الأفكار البروليتارية بين الشغيلة.. وقد دعمت كل من المخابرات الأمريكية والمخابرات البريطانية الحزب النازي في ألمانيا في البداية من أجل وقف المد الشيوعي، بالضبط كما دعموا الحركات الإرهابية والأحزاب القومية فيما بعد لنفس السبب.
ولكن في النهاية توصل عالم الاقتصاد البريطاني كينز إلى فهم سبب الكساد وتوصل إلى بعض الحلول التي كانت تبدو وكأنها سياسة اشتراكية بسبب تدخل الدولة من خلال تشغيل العاطلين عن العمل في مشاريع حكومية.. حتى أن الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت عندما بدأ بتطبيق تلك السياسة بعد فوزه بالانتخابات عام 1933، اتهمه نقاده من الحزب الجمهوري وحتى بعض اصدقائه وبعض رفاقه بالحزب الديمقراطي بأنه ربما شيوعي، وتم تشبيهه بالصحف الأمريكية بقائد ثورة أكتوبر الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي (فلاديمير لينين). حتى أن في الصحف الامريكية تم نشر صورة الرئيس الأمريكي روزفلت إلى جانب صورة الزعيم لينين وعنوان كبير (رئيسنا يحول دولتنا إلى دولة اشتراكية).
ولكن المفاجأة هي أن تلك الحلول نجحت وانتهت الأزمة بشكل تدريجي ولكن بشكل سحري وكأنها لم تكن.. وكذلك انتهت في أوربا بعد ذلك.. في بعض الدول استمرت حتى قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939.. ومنذ ذلك الوقت تبادل الحزبان الرئيسيان الأدوار في الحكومة الأمريكية، حيث أن قبل ذلك كان الحزب الجمهوري يسارياً معتدلاً ينادي بتحرير العبيد وببعض الحقوق للعمال، ولذلك كان علم الحزب الجمهوري (ولا يزال) هو العلم الأحمر.. بينما الحزب الديمقراطي كان على العكس من ذلك، فقد كان يمينياً متطرفاً، ينادي بالإبقاء على العبودية.. ولكن منذ أزمة الكساد العظيم بدأ الرئيس الديمقراطي فرانكلين روزفلت ينادي بحقوق العمال والجمهوريون ينتقدون سياسات الديمقراطيين ويعتبرونها تحاول تحويل الولايات المتحدة إلى دولة اشتراكية.. ولذلك كان علم الحزب الديمقراطي قبل تلك الأزمة(ولا يزال) هو العلم الأزرق.
تركت أزمة الكساد العظيم أثراً كبيراً في الذاكرة الأمريكية والذاكرة العالمية.. حتى أن الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ حذر الرئيس الأمريكي ترامب قبل أيام قلائل من أن الحرب التجارية الحالية من الممكن أن تؤدي إلى كارثة اقتصادية عالمية كما حدث مع أزمة الثلاثينات بعد تطبيق سياسة سموت هاولي، حيث أن التجارة العالمية عندما تقل، سوف ينخفض انتاج المصانع فتزداد البطالة وتقل القوة الشرائية للجمهور بسبب زيادة حجم البطالة، ونتيجة لذلك سينخفض حجم الإنتاج وسوف تقفل المصانع وتزداد البطالة مرة أخرى وتنخفض القوة الشرائية مرة أخرى..... وهكذا تستمر الأزمة مثل الدوامة حتى تتحول إلى كساد وإلى كارثة اقتصادية عالمية.
ولكن في حالة وقوع كارثة اقتصادية كهذه، فمن سيكون المتضرر الأكبر فيها؟؟ بالطبع الدول التي تعيش على الإنتاج من أجل التصدير، وبذلك ستكون الصين رقم واحد، ومن ثم اليابان وكوريا الجنوبية ودول الاتحاد الأوروبي ومن ثم الولايات المتحدة نفسها.. ولكن الصين واليابان وكوريا الجنوبية بنت مؤخراً تحالفاً اقتصادياً فيما بينها لكي تحمي نفسها من التعريفات الجمركية الأمريكية، ومن المحتمل أن ينضم الاتحاد الأوروبي وربما كندا أيضاً إلى تحالفهم الاقتصادي، هذا فضلاً عن تحالف البريكس.. وبذلك سوف تبقى الولايات المتحدة خارج كل تلك التحالفات الاقتصادية العالمية التي تقودها الصين 🇨🇳.
والسؤال الآن هو: إلى اين يريد ترامب أن يصل من خلال سياسته هذه؟ هل يريد أن ينعش الاقتصاد الأمريكي بنفس الطريقة التي اتبعها سلفه الرئيس هوفر قبل 95 عاماً والتي تسببت بكارثة اقتصادية؟؟ ألم يقرأ ترامب التاريخ؟؟ أم أنه قرأ ولم يتعظ؟؟
نتمنى أن يستمع ترامب لصوت العقل ويتراجع عن سياساته التي سوف يتضرر منها كل العالم والشعب الأمريكي نفسه الذي سيكون أكبر المتضررين، حيث أن الولايات المتحدة ليس بمقدورها تحمل أزمة مشابهة لأزمة الثلاثينات بعد الانقسام الكبير الحاصل حالياً لدى الشعب الأمريكي والذي لم يسبق له مثيل وتهديد بعض الولايات بالانفصال مع وجود أعداء أقوياء للولايات المتحدة مثل الصين وروسيا، والآن أصبح الاتحاد الأوربي من أعداء الولايات المتحدة أيضاً بعد التهديد الأمريكي باحتلال غرينلاند التابعة للدنمارك.