بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، وتفكك حلف وارسو، وتراجع دور حركة عدم الانحياز، دخل العالم مرحلة جديدة أُعيد فيها رسم موازين القوى، ومعاني السيادة، ومفاهيم التحرر الوطني. سقطت "الشرعية الثورية" التي استندت إليها حركات التحرر لعقود، وتراجعت قيمة قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بحق الشعوب في تقرير مصيرها، لتُصبح مجرد نصوص مهجورة في أرشيف القانون الدولي.
في قلب هذا التحوّل التاريخي، واجهت قضايا تحرر كبرى – كالقضية الفلسطينية والكردية – انتكاسات مؤلمة. فبعد أن كانت رموزًا عالمية للمقاومة والصمود، تحوّلت إلى سلطات قائمة، منشغلة بالحكم أكثر من النضال، وبالنفوذ أكثر من المبادئ. صمتت البندقية، وغاب الشهداء عن الخطاب، وظهرت لغة المصالح، والمكاتب السياسية، ورواتب الموظفين، والتنسيق الأمني، والشركات العابرة للأحلام.
فلسطين: من الثورة إلى الإدارة
منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وحتى توقيع اتفاق أوسلو، كانت القضية الفلسطينية تُعبّر عن جوهر فكرة التحرر الوطني، بوصفها نموذجًا لمقاومة استعمار طويل الأمد. لكن بعد دخول السلطة الوطنية مرحلة الحكم في الضفة وغزة، وخصوصًا بعد الانقسام السياسي عام 2007، انكمش المشروع الوطني إلى إدارة منقسمة بين فتح وحماس، وتحوّلت المقاومة إلى تنسيق أمني يُوصف – من داخل السلطة – بأنه "واجب وطني".
في الوقت نفسه، أُهملت ملفات اللاجئين، وتآكلت شرعية التمثيل، وظهرت طبقة سياسية مستفيدة من الوضع القائم، في ظل عزوف شعبي متزايد. هكذا تراجعت فلسطين، لا من حيث عدالة قضيتها، بل من حيث أدوات تمثيلها.
كردستان: من الحلم القومي إلى سلطتين حزبيتين
التجربة الكردية تقدّمت من حكم ذاتي بعد 1991 إلى نموذج فيدرالي بعد 2005، لكن المسار لم يخلُ من اختلالات بنيوية عميقة. تقاسم الحزبان الكبيران – الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الراحل جلال طالباني – النفوذ في الإقليم منذ 1992، ما أدى إلى قيام "إمارتين فعليتين": أربيل ودهوك تحت هيمنة البارزانيين، والسليمانية وحلبجة تحت سلطة الاتحاد الوطني.
هذا الانقسام لم يكن سياسيًا فقط، بل غذّته التدخلات الإقليمية. تركيا تدعم الحزب الديمقراطي، بينما تميل جماعة جلال إلى التنسيق مع إيران، وهي اليوم جزء من "الإطار التنسيقي" في بغداد. وسط هذا المشهد، تراجعت فكرة "التحرر القومي" لصالح تقاسم السلطة، وبقي المواطن الكردي يواجه التهميش، وتدهور الخدمات، واحتكار الثروات من قبل النخب الحزبية.
وفي الوقت الذي تتقاسم فيه النخب الحزبية السلطة والثروات، يعيش المواطن الكردي واقعًا قاسيًا؛ فقد مضت ثلاثة أشهر دون صرف الرواتب في الإقليم، وسط صمت رسمي، وتجاهل متعمد لمعاناة الناس. الأسوأ من ذلك أن زوجات الشهداء – من قدّمن أعز ما يملكن لهذا الوطن – بات مصدر رزقهن الوحيد هو تلك الرواتب التي لا تأتي. حين تُهان كرامة مَن ضحّى، ويُترك أهلهم للذل والعوز، فإن المشروع برمّته يحتاج إلى مراجعة أخلاقية قبل أن يكون سياسية.
الخلل البنيوي: فخ الاعتماد على الخارج
الانهيار لم يكن ناتجًا فقط عن تغيّر البيئة الدولية، بل أيضًا عن خلل داخلي عميق. لقد اعتمدت معظم حركات التحرر على الخارج أكثر من اعتمادها على قاعدتها الشعبية، وفضّلت الإقصاء على بناء مشروع وطني جامع. وفي غياب الشرعية الشعبية، صار من السهل أن تُباع القضايا في سوق المصالح، وأن تتحوّل الحركات الوطنية إلى أدوات طيّعة بيد الأطراف الإقليمية والدولية.
ومع صعود الأوليغارشية الاقتصادية العالمية، لم تعد الخرائط تُرسم بالإرادة الوطنية، بل بمصالح الشركات العابرة للحدود، والصفقات الجيوسياسية. لم يعد
هناك مكان للشعوب الضعيفة أو المترددة، أو تلك التي لم تعد تمتلك مشروعًا داخليًا متماسكًا أو شرعية حقيقية.
ما العمل؟
- إعادة النظر في المشروع الوطني: هل لا يزال هدفه الإنسان والكرامة؟ أم تحوّل إلى غطاء لتقاسم السلطة والنفوذ؟ لابد من مراجعة نقدية شجاعة تُعيد الأولوية للناس لا للنخب.
- بناء شرعية داخلية حقيقية: لا شرعية بلا شعب. لا مقاومة بلا مشاركة. ولا نصر بلا عدالة اجتماعية وشفافية.
- استقلال اقتصادي تدريجي: التحرر يبدأ من امتلاك الموارد الوطنية، وتوجيهها لبناء اقتصاد يخدم المواطنين لا المصالح الحزبية.
- إعلام ووعي مستقل: لا تحرر دون وعي. نحتاج إلى إعلام يُحصّن المجتمع من التضليل، ويربط الأجيال الجديدة بجذور النضال، دون تقديس أو تزوير.
- الوحدة في التنوع: لا يمكن لأي مشروع تحرري أن ينجح ما لم يعترف بالتعدد القومي والديني والمذهبي كقوة دافعة لا كتهديد وجودي.
إلى شباب المستقبل:
جيلكم ليس مُطالَبًا أن يرفع البندقية، بل أن يرفع الوعي، وأن يعيد المعنى،
وأن يجرؤ على أن يحلم – لا كما حلموا، بل كما يجب أن يُحلم اليوم