جاء في القسم الاول من هذه التأرخة ان ديوان محمد مهدي الجواهري (1899-1997) لا يحسب حافظة قصائد وشعر وحسب، بل راح سجلا لوقائع واجواء تغطي نحو سبعة عقود من الحياة الشخصية، والسيرة الذاتية، الى جانب من (بل وبتشابك مع) تاريخ البلاد العراقية الحديث، بأتراحه وأفراحه، الثقافية والاجتماعية والسياسية، وما يتفرع عنها من محاور واتجاهات ..

وياتي التوثيق عن قصائد و "مقامات" الجواهري في حواضر ومدن العراق، مترافقا مع العديد من المؤشرات الحاضرة وضوحاً او ضمناً، برغم اننا لم نفصل الا قليلا في الحصر والتعداد والتأشير. وبخلافه فأن الأمر يتطلب تفاصيل كثيرة تسبق نظم ونشر القصيدة، ومناسبتها ومكانها وزمانها وما الى ذلك، وهذا ما يحتاج لمساحات كتابة واسعة، وجهدا اوسع، ليس في غاية وهدف هذا التوثيق، الان على الاقل. ومع ذلك فلربما ستوفر بضعة خلاصات في الخاتمة ما يفيد على تلكم الطريق.. وفي التالي القسم الثاني والاخير، وقد توقف القسم الاول عند محطات للشاعر الكبير في 1/ النجف وبغداد.. 2/ سامراء .. 3/ الرستمية.. 4/ الحلة .. 5/ مدينة الحي في واسط:

 

6/ كربلاء.. و "امنت بالحسين" عام1947

من اشهر ما يُوثق عن الجواهري وكربلاء، عصماؤه: "امنت بالحسين" عام 1947 التي فاضت بالتعبير عن المواقف والمفاهيم الطافحة بالإباء والشموخ، والممجدة للفداء والتضحيات، كما هي الحال في فرائد جواهرية عديدة (1) وان اختلفت في الصور والاستعارة. وقد القيت تلكم العينية المبهرة في الصحن الحسيني، في المدينة المقدسة، احياء لذكرى مأثرة الطّف، بحضور جمع من الشخصيات البارزة، وحشد من الجموع، وجاء مطلعها:

فـداء لمثـواك من مضـجـعِ … تـنـوّر بـالابلــج الأروعِ

ورعياً ليومـك يوم"الطفـوف"… وسـقياً لأرضك من مصرع

تعـاليتَ من مُفـزع للحتـوفِ … وبـورك قبـرك مـن مَفزع

 

7/ في (علي الغربي) عام 1955

مخاصما وغاضبا، ومهضوما، يلجأ الجواهري عام 1955 الى فضاء ريفي في اطراف مدينة (علي الغربي) بمحافظة ميسان (لواء العمارة في حينها) لـ "يمتهن" الزراعة هذه المرة، بعد انشغالاته الاخرى في الشعر والوظيفة الحكومية، والصحافة والسياسة وغيرهن عديد .. وقد اوحت له الطبيعة، واحدى الاستضافات الحميمة، والاجواء الانسانية، نونية مطولة بمئة وتسعة ابيات (وجدانية - وصفية، فلسفية) موسومة بـ " أم عـوف" ومن ابياتها:

جِئنا مغانيكِ نُسّاكاً يُبرّحهمْ، لُقيا حبيبٍ أقاموا حُـبّـه دينا

ولاءَمتنا شِعابٌ منكِ طاهرةٌ، كما تضمّ المحاريبُ المصلّينا

لم ألفِ أحفلَ منها وهي مُوحشةٌ، بالمؤنساتِ.. ولا أزهى ميادينا

ولا أدقّ بيانـاً مِن مجاهلِـهـا، ولا أرقّ لمـا توحيـه تبيّينا

 

8/ في "مربد" البصرة عام 1969

و"البصرة، البصرة، وكفى" بحسب ايجاز الجواهري في وصف ثغـر العراق، خلال مجالسه.. زارها وتردد عليها، وعمل فيها في الثلاثينات الماضية مدرسا في ثانوياتها أشهرا قليلة. وله في تلكم الفيحاء علاقات وصداقات متعددة مع مثقفين وشخصيات بارزة من اهل المدينة او المقيمين فيها.. اما الحدث الابرز بين البصرة والجواهري، فذلك الذي حدث عام 1969 خلال الدورة الاولى مهرجان "المربد" الشعري، حين هرعت جموع بصرواية حاشدة لأستقبال شاعر الوطن القادم اليها من بغداد بالقطار. وقد تكرر الحشد الجماهير الكثيف حين كان يلقي قصيدة جديدة -ذاع صيتها لاحقا- امام حضور المهرجان والمشاركين فيه، وجاء مطلعها: ..

يا "ابن الفراتيّن" قد أصغى لك البلدُ، زَعْماً بأنك فيه الصادحُ الغَرِدُ..

ما بين جنبيكَ نبعٌ لا قَرارَ له، من المطامح يستسقي ويَرتفد..

كأن نفسَك بُقيا أنفسٍ شَقيت، وكلّ ذنبِ ذويها أنهم وُجِدوا

وأنهم حلبوا الأيام أضرعها، حتى إذا محضتهم دَرّها زَهَدوا

 

9/ في ربوع كردستان وعنها منذ عام 1963

كان الجواهري منسجما مع الذات حين انحاز دائما، ودون مواربة، في حبه الكرد، واهل كردستان عموما، ودعم طموحاتهم، وحقوقهم المشروعة.. اما ايجاز ذلك الحب والانحياز فلا نرى أنه يحتاج لمزيد من الدلالة والاضافة والشرح اذا ما اقتبسنا بضعة ابيات وحسب، من ميميته المطولة الفريدة عام 1963 الموسومة " كردستان... موطن الابطال" ذات المئة والثمانية ابيات،ومنها :

قلبي لكردستان يُهدى والـــفم، ولقد يجود بأصـغـريـه الـمـعـُـدم..

تلكم هدية مستمــيــت مـــغـرم انا بالمـضـحى والضـحـيـة مــغـرم..

نفسي الـفـداءُ لـعـبـقـريَّ ثائر يـهـبُ الـحـياة كـأنـَّـه لا يفهـَـمُ

سـلـَّـم على الجـبـل الأشــم وأهلـِـه ولأ نت تــعــرف عـن بــنـيه من هـُم

 

كما نوثق هنا ايضا ان الشاعر الكبير كان قد كتب قصيدة عام 1961 بمناسبة استذكار الشاعر الكردي الشهير (فائق بي كآسٍ) وترجمة اسمه بالعربية " بلا أحد، الغريب" وجاء مطلع تلك القصيدة:

أخي (بي كه سٍ) والمنايا رَصَدْ، وها نحنُ عاريّـةٌ تُسـترَدْ

أخي (بي كه س) يا سراجاً خَبَا، ويا كوكباً في دجىً يُفتقد..

(بلا أحدٍ).. سُنّةَ العبقريّ، يعي الناسَ.. إذ لا يعيهِ أحــد

(بلا أحدٍ) غـيرَ خُضرِ الجبال، ووحيِ الخيال، وصمتِ الأبد

 

.. ومما نضيفه في هذا السرد، ان الجواهري قد شارك في النصف الاول من سبعينات القرن الماضي في مهرجان احتفاء واستذكار للشاعر الكردي الكبير (بيره مرد) وذلك في السليمانية مع وفد من الادباء العراقيين البارزين، قدموا من بغداد للمشاركة في تلك الفعالية (2)..

 

10/ في الموصل- ام الربيعين عام 1980

تستقبل جامعة الموصل الجواهري ضيف شرف على مهرجانها السنوي، مطلع عام 1980 وتعد له برنامجا يستقيم مع مكانة الشاعر الكبير والاحتفاء به، وبحضور ومشاركة اعلام بارزين من الاكاديميين واساتذة اللغة والادب (3) .. ومما شمله برنامج الزيارة جولة حرة وسط الموصل، استقبل به الجواهري بترحاب وحفاوة بالغة من قبل بنات وابناء المدينة العريقة.. ومن ابيات قصيدته في حفل الافتتاح:

"أم الربيعين" يا من فُقت حسنهما، بثالث من شبابٍ مُشرق خَضلِ

واعٍ تلقفُ من وحي الوعاة لهُ، ما شاء من سيّرٍ جُلى، ومن مثل..

أمُ الثغور التي ناغى ملاعبها، رأد الضُحى إذ رُبوع الشرق في الطفل

يا موصل العرق من شرقٍ تمد به، للغرب حبلا بعرق منهُ متصلِ

 

أخيــرا .. ثمة الكثير من المدن والبلدات العراقية التي زارها الجواهري الكبير، بدعوات رسمية، او اجتماعية، او عائلية، ولم نوثق لها في هذه الكتابة التي اردنا ان يكون الشعر ذا صلة بها، بذلك القدر او هذا. ومن بين تلكم المدن : الناصرية (وعمل فيها مدرسا لفترة قصيرة، اواسط الثلاثينات الماضية) ثم الديوانية، بعقوبة، الكوت، هيـت..

كما ندعي ايضا ضرورة التوكيد مرة ثانية بأن ما جاءت به الفقرات السابقة ليس سوى مواجيز عن "مقامات" الجواهري، وقصائده، في جمع من حواضر العراق ومدنه. ونكرر ما سبقت الاشارة اليه بأن هناك لكل مقام وقصيدة تفاصيل واحداث مرافقة، توضح وترسخ حقيقة ما "زعـمَ" به الجواهري ذات يوم من عام 1957 وكان لاجئا سياسيا في سوريا، حيــن قال مختتما قصيدته "في ذكرى المالكي" ذات المئة والثمانية والثلاثين بيتا :

أنا العراق لساني قلبه ودمي فراته، وكياني منه أشطارُ

-------------------------------------

- كتابة وتوثيق: رواء الجصاني، رئيس مركز الجواهري الثقافي،

واللوحة للفنان علاء جمع ابدعها عام 2019 ..

احالات وهوامش -------------------------------------------------------------------------

* ملاحظة وتوكيد: جميع ما تم التوثيق له في هذا البحث، اعتمد بالأساس على ديوان الجواهري، وجزأي ذكرياته، اضافة الى معايشات ومعلومات، ووثائق شخصية للكاتب..

1/ ومن بينهــا، مثــلا، قصائده عن "الوثبـــة" العراقيـة عام 1948 ولامية "سواستبــول" عــام 1942 وقصيدة "سلاما .. الى اطياف الشهداء الخالدين" عام 1963" وبائية "الفداء والدم" عام 1968 وغيرهن عديد عديد..

2/ اصطحب الجواهري معه في زيارة السليمانية: زوجته آمنة، وأخته نبيهة..

3/ ترافق الجواهري في الطريق من بغداد الى الموصل، مع صاحبيه : د. مهدي المخزومي، ود. على جواد الطاهر..