قال احد المسؤولين وهو يتحدث عن ازمة الكهرباء التي غدت دائمة مثل شعلة بابا كرر، بأن "المشكلة لدينا ليست مالية او فنية، بل هي الفساد والبيروقراطية والتخبط في الخطط والمافيات في الدولة وخارجها والتجاوزات". وفي وقتها كان هو الشخص الأول في الجهاز التنفيذي. وغطى الغبار هذا التشخيص السليم في وقته، وذهب هذا المسؤول وأتى اخرون وما زالت الناس تعاني. فيما تركت المشكلة المتفاقمة اثارها على المجالات كافة، وظلت تستنزف أموال الدولة والمواطنين.

وما زالت الحكومات المتعاقبة تغدق الوعود؛ ألم يقل احدهم باننا سوف نصدر الكهرباء، في حين بلدنا يستورد الان الكهرباء مع الغاز الذي صارت له ابعاد جيوسياسية، حيث تعلن وزارة الكهرباء بين حين واخر فقدان الآلاف من الميغاواطا وخصوصا في الصيف اللاهب.

وبعيدا عن التأويلات، نستعين، هنا، بالأرقام لنقارن ما صرف عندنا على الكهرباء منذ ٢٠٠٣ ولم تحل مشكلتها، بينما هناك دول أخرى حلتها باقتدار. والغريب قامت بذلك الشركات ذاتها التي تعاقد معها العراق!

تقول تقديرات بان العراق استثمر ما يزيد على ١٤٠ مليار دولار، ولم يتجاوز ازمة الكهرباء. والخبراء يقولون بان هذه المبالغ كانت كافية لحل الازمة؛ حيث بحسب دراسات البنك الدولي فان بناء نظام كهربائي متكامل (انتاج + نقل + توزيع) وبطاقة ٣٠ الف ميغاواط وهو ما يسد حاجة العراق الحالية، يمكن ان ينجز بكلفة تتراوح بين ٤٠-٦٠ مليار دولار.

وعلى سبيل المثال والمقارنة فان المملكة العربية السعودية قد بنت شبكة كهرباء متطورة تغطي كل المناطق بكلفة تقديرية اقل من ١٠٠ مليار دولار خلال عقدين، وتنتج اكثر من ٦٠ الف ميغاواط. ومصر (عدد سكانها ١٠٦ مليون نسمة) هي الأخرى شيدت محطات كهربائية بقدرة ١٤ ميغاواط مع شركة سيمنز الألمانية بكلفة ٨ مليارات دولار فقط وبوقت قياسي (٢٠١٥-٢٠١٩).

علما انه في العراق نسبة الفقد في الشبكة ـ لاسباب مختلفة ـ تتراوح بين ٣٠ في المائة الى اكثر من ٥٠ في المائة، فيما لا تتجاوز النسبة عشرة في المائة بمصر.

فشركة سيمنز تحل مشكلة الكهرباء في مصر وبزيادة، في حين لم يتحقق ذلك في العراق حتى الان. أليست هذه المفارقة تدعو للتوقف مليا عندها؟

والامر الاخر الغريب ان الحكومات المتعاقبة تنسى او تتناسى موضوع الكهرباء عندما يعتدل الجو، فيما تأخذ بالهرولة عند اقتراب الصيف وتستنفر قواها، لتعود الى السبات في الفصول الأخرى!

لأي أسباب يعود هذا العجز عن ملاقاة هذه المسالة وحلها، فهذا ليس فقط غير مقبول، بل انه مدعاة للضحك عندما يبرر ذلك بعدم توريد الكميات المتعاقد عليها من الغاز من إيران، او ان المشكلة متراكمة وتحتاج الى سنوات للحل، وكل حكومة تأتي تلقي باللوم على من سبقها، وهكذا تدور الازمة؛ مصر حلت مشكلة الكهرباء في اربع سنوات، وفي بلدنا هناك نكوص وتراجع. لم يعد الامر يقبل التأويلات والاجتهادات، فالأسباب واضحة: فساد، وغياب خطط متكاملة  وسوء تخطيط، وليس ادل على ذلك من شراء توربينات غازية لا يتوفر الغاز لها ونقوم باستيراده، او نتعاقد مع تركمنستان ونودع الغاز في انابيب إيرانية، لم ينتظم تجهيزها للعراق بالكميات المتعاقد عليها.

ولعل من سوء التخطيط، أن نواصل على مدى ٢٢ عاما حرق الغاز بيد، فيما نحن نستورده بيد أخرى، او هناك حقول غازية واعدة لم تستثمر وربما لدواع سياسية وحسابات طائفية مقيتة!

يتوجب، هنا، ان نشير الى الجانب السياسي في الموضوع، والتجاوزات على الشبكة ولوبي أصحاب المولدات، مع غياب إرادة الحل، كل هذا وغيره، يقف وراء استمرار الازمة، وحال دون ان يتمتع المواطن العراقي بتجهيز دائم للكهرباء، والذي هو الاخر عليه ان يدعم ذلك بالترشيد وتسديد الفاتورة، فيما يتوجب على الدولة تنظيم نظام فاعل للاعفاءات والدعم للفئات الهشة والفقيرة. 

كما أننا لا ينبغي أن نكفي بالتظاهر والاحتجاج صيفا، ونعود الى سكون في أيام أُخَر، بل اصبح ملحا التوجه الى أس وأصل المشكلة برمتها، فهذا هو المدخل السليم لمعالجة مشكلة الكهرباء وغيرها من القضايا والمشاكل التي عجزت وتعجز منظومة المحاصصة والمتماهية مع الفساد عن إيجاد الحلول لها، وليس سياسة الاحتواء واطفاء الحرائق و"طأطأة الرأس حتى تمر العاصفة".