في كل دورة انتخابية جديدة تؤكد القوائم والقوى المشاركة في العملية الانتخابية  على عمق إيمان جماهيرها قيادات وقواعد،  باستحقاق العراق لدولة حديثة، وأن الأزمات المتعاقبة على العراق بطابعها العام، المتمثل بالظروف الصعبة في مختلف مجالات الحياة، سببت إضعاف مؤسسات الدولة، وعمقت معاناة المواطنين، وجعلت العراق يدفع أثمانا باهظة نتيجة للسياسات الخاطئة التي رافقت مسيرة التأسيس ما بعد سقوط البعث، لذا فتلك القوى تسعى لبناء دولة القانون والمؤسسات الكافلة لحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية .

دائما ما كانت مثل تلك الديباجة التنظيرية القاعدة الأساسية المعدة لشرح طبيعة الأسباب الموجبة التي دفعت هذه القوى المجتمعية السياسية، لاستنفار وحشد قواها وتأليف ركيزتها لتكون الممثل للجماهير التي تنضوي لاحقا تحت هذا المسمى أو ذاك، معتقدة أن مثل هذه الشعارات تفي بالغرض وتكفي لإقناع الجماهير بكونها الأداة الفعلية التي تنفرد بهذه الرؤية الشاملة دون غيرها، وهي وحدها الحريصة على خلاص الشعب من أوضاعه المتعبة والمؤذية،  والقادرة على حل معضلات الوطن الكبيرة المسببة للخراب والدمار الذي تعرض له خلال ما مضى من الزمن.

ما كانت هذه الديباجة لتختلف في حيثيات لغتها العامة وطرحها الفضفاض عما درج على تقديمه جميع القوى والأحزاب والتيارات السياسية المشاركة بالعملية السياسية. فشعار الإصلاح ومحاربة الفساد يتقدم اللافتات، وتحسين أسلوب عيش المواطن ودولة المواطنة والالتزام بمعايير الديمقراطية والتنمية الوطنية والتحديث في مؤسسات الدولة وغير ذلك من البهرجة اللفظية التي تعتقد تلك القوى بأنها تغري المواطن وتحبب له المشاركة بالعملية السياسية وتدفعه نحو صناديق الاقتراع .

ولكن مثل تلك المصطلحات والشعارات التنافسية المفخمة ، تحتاج إلى تفكيك بإفاضة وتدقيق وبحث جاد عن حقيقة تمثيلها وتماثلها بين أوساط تلك القوى السياسية أولا، ومن ثم قدرة هذه الفعاليات على اتخاذ الإجراءات الفعلية والعملية لتنفيذ تلك الأهداف الكبيرة وفي مقدمتها الإصلاح ومحاربة الفساد وبناء دولة المواطنة والتنمية، وهي قيم عملية شاملة أساسها فكري قبل أن تتمثل عمليا. ولكي تصبح هذه القيم ذات اثر، يفترض أن يأتي تفعيلها ويتجسد في هيكلة وتراتيبات الحكم، وفي مقدمة ذلك، الالتزام بمعايير الديمقراطية وإزالة مفهوم شراكة النخب السياسية في احتكار صنع القرار واستغلالها للفوائد الناتجة عنه، وإبعاد كل ما يقف بوجه الممارسات الكافلة لحقوق المواطن.

رغم مضي أكثر من سنتين بعد العشرين عام على التغيير في العراق وحدوث الكثير من التغيرات والاختلاف والاختلال في طبيعة وهياكل السلطة،وتعرضها ومعها الشعب  لحوادث جسام ومتغيرات داخلية وخارجية كبيرة ومتسارعة في بعضها، فالترتيبات المتخذة والأفعال وبشكل عام، وبالذات منها السياسية والاقتصادية، تفتقر للشفافية والوضوح، ويغلب على تشخيصها أو خطط معالجاتها انعدام المنهجية وقصور في الفهم، بل في كيفية الوصول لصلب الأزمة.  وفي الغالب يتم الاهتمام بالشكل والمظهر الخارجي  بعيدا عن وضوح الرؤية والصواب في تحديد المشكلة وتحسين الأداء للكشف عن تلك العلل المرضية الطارئة أو المستوطنة.

في العلاقة الترابطية التنظيمية للأحزاب والقوى المشاركة بالسلطة مع مسارات إدارة السلطة، نجد غموض وتمويه في فعالية ذلك النظام الذي أطلق عليه مسمى الشراكة الوطنية. ففي جانب منه، هناك بعض الأطراف ورغم فعاليتها وتأثيرها الواضح في حراك وقرارات السلطة ، غالبا ما نجدها تحاول النأي بنفسها عن القرار المتخذ وتعطي صورة هلامية  عن مشاركتها في تدبيجه وإعلانه، وتحاول رغم تقاسمها مع حلفائها لمصادر القوة والثروة، الوقوف خارج المشهد كطرف متفرج ناقد وفاضح لسياسات الحكومة، بل تضع نفسها في موقف المحاسب والمؤشر للأخطاء، مما أعطى العملية السياسية عدم الثبات وجانبها المصداقية، وأشاع  في الشارع شعور بخيبة الأمل وانعدام الاقتناع بما تقدمه وتعلن عنه من شعارات، مع ارتفاع ملحوظ في ترويج الإشاعات واستشرائها، وأظهر كل ذلك ضعف القوى الحاكمة مجتمعة، وعدم قدرتها السيطرة على قراراتها وأفعالها. مثل هذا الاختلال السياسي القيمي ينعكس على طبيعة التشكيلة الحزبية ومدى فعالية رؤيتها المنهجية  وحقيقة برامجها، وواقع قناعتها في مشاركتها لإنضاج  وبلورة نظام ديمقراطي تداولي يعمل بروح المواطنة الجامعة ويتفاعل بمبدأية مع الشراكة الحقيقية .

في بلدان الديمقراطيات الناضجة القديمة والحديثة، ومثلما يخضع الجميع لحكم القانون والمراقبة، يُفرض على الأحزاب العمل بشفافية ووضوح. وتكون جميع الفعاليات الحزبية مالكة لقواعد ومعايير عمل، يجعلها صاحبة قدرة  وكفاءة على مراقبة وتقييم الوضع المجتمعي بمختلف تلاوينه، وأيضا متابعة عمل مؤسسات الدولة أفرادا وجماعات، بل تذهب بعيدا لرصد عدالة الإجراءات والآليات التي تعمل بها الأحزاب المتنافسة، ليتم تقييم نقاط الضعف والقوة بأسلوب منظم ووفق أساليب وأنماط مقارنة وتفاضل، لا تخدش فيها المثل والقيم الديمقراطية في عمل  النظم الدستورية. لذا دائما ما تضع هذه الأحزاب رؤيتها المنهجية وأفكارها في خطط  وترتيبات مبتكرة ، لمعالجة العثرات والتغيرات التي طرأت وتطرأ غالبا في الساحة المجتمعية والمؤسساتية لأوطانها.

ولأجل هذا الغرض تظهر لجان حزبية تخصصية، يقع على عاتقها وضع إطار شامل لدراسة وتقييم الأداء العام للسلطة، وكذلك لجميع مظاهر العقد الحياتية اليومية العامة، وبالذات البحث في احتياجات الناس.على أن تطرح هذه اللجان أفكارها في كراس أو أوراق بحث تعرض مسبقا إلى الجمهور وتجدد قبل موعد خوض الانتخابات. ويحتوي الكراس رؤية الحزب لآليات عمل وأداء المؤسسات الحكومية وتوصيفها، ووضع تصور للحلول التي من الممكن بواسطتها معالجة الخلل إن وجد، ومثله تشخيص وطرح حلول لحاجات واهتمامات الناس، ليكون هذا البحث معالجة عملية يبدأ من حقوق المواطن وعلاقته بالسلطة وصولا إلى البعد الدولي لسياسة الحكومة الخارجية.

عام 2005 أقيمت الانتخابات البرلمانية الأولى في العراق وتلتها أربع دورات انتخابية أخرى. في جميع تلك الدورات الانتخابية الخمس، لم تظهر دراسات جادة رصينة وتفصيلية قام بها حزب من الأحزاب المشاركة في العملية الانتخابية ، ولم نلمس وجود كراس أو  ورقة بحثية تشخص وتستعرض بدراسة دقيقة شاملة بعيدة عن الإطناب والتفخيم والتمنيات، رؤية الحزب وبرامجه وتصوراته  المستقبلية لطبيعة وهيكلة وعمل جميع قطاعات الدولة ومفاصلها  ومؤسساتها الحيوية ، وتفصح عن رؤية الحزب لكيفية معالجة الإخفاقات أو تقييم العمل و تحليل وقائعه، ومن ثم طرح الحلول المقترحة، للوصول إلى الأمثل في عمل هذه الوزارة أو تلك حسب منهج الحزب ورؤاه.

في تلك البحوث أو الكراس،يتاح للحزب عرض برنامجه  ورؤيته السياسية والاقتصادية الاجتماعية. ويقدم للجمهور معلومات وافية عن اهتماماته وتوجهاته وأفكاره وبرنامجه العام. ومن خلال هذه الدراسة يعرض الحزب برامجه وأفكاره حول الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة والموقف من انتشار السلاح، وإلى أي مدى تتوافق مناهج الحزب  وتنظيماته مع حرية الفرد وصون كرامته وحمايته من الترهيب والتخويف والاضطهاد، أو منعه من ممارسة  ديانته وثقافته الخاصة، ومن ثم  توفير حاجاته الحياتية الأساسية من مثل الرعاية الصحية والغذاء والسكن والمياه والكهرباء والتعليم والحرية الفكرية. وكذلك  توصيف وتقييم عمل الوزارات ومنجزها بشكل عام، ومراقبة تقديمها الخدمات لجمهور المنتفعين من أعمالها. ويستعرض الحزب في بحثه هذا قدراته على قراءة الحدث العام واليومي، ويختبر إمكانياته في تقديم دراسات ومقترحات رصينة لمعالجة الإخفاقات وتقديم الحلول بما يرتئيه قادته  وكوادره من أفكار، ليستطيع الجمهور معرفة نواياه ومشاريعه وأسباب وغايات مشاركته في العملية السياسية، وليتمكنوا من امتلاك مرجعِ مناسبٍ لقياس مدى مصداقية والتزام الحزب بأطروحاته وبما تعهد به أمام جمهوره، وعندها يتسنى لهذا الجمهور تقييم عمل الحزب وحقيقة مسؤولياته الوطنية والمهنية والأخلاقية ومدى المصداقية والواقعية التي حواها برنامجه التفصيلي أو العكس، وعند هذه الجزئية يتم الاحتكام و مناقشة الأداء اللاحق للحزب، وهل ألتزم فعلا أو اخل بما تعهد به كليا أو جزئيا بعد حصوله على مواقع مسؤولية  متقدمة كانت أم جزئية. فهل نجد مثل تلك الكراسات و البحوث أم يستمر الحال اعتمادا على ما يطلق من تصريحات إعلامية فضفاضة وتمنيات تنتهي صلاحيتها حين إغلاق صناديق الاقتراع .