مع أن ترامب لا يتبع بالضرورة سياسةً خارجيةً منطقيةً وعمليةً لتأطير علاقات الولايات المتحدة مع الدول الأخرى، إلا أن قراره بتعليق الحوار الأمريكي – الكوسوفي لم يكن مُضلِّلاً تمامًا. فقد فشل رئيس الوزراء كورتي في إظهار حنكته السياسية لتوجيه البلاد في الإتجاه الصحيح. وعليه الآن أن يواجه الواقع الذي لا مفرّ منه والذي لطالما تجاهله.

يُمثّل تعليق الحوار الأمريكي – الكوسوفي أشدّ توتر في علاقات البلدين منذ استقلال كوسوفو عام 2008. فمنذ تدخل حلف شمال الأطلسي عام 1999 وحتى دور واشنطن الحاسم في الإعتراف باستقلال كوسوفو، لطالما اعتمد مصير كوسوفو على الدعم الأمريكي، وقد حمت الدبلوماسية الأمريكية بريشتينا من العراقيل الصربية والفيتو الروسي في الأمم المتحدة. والآن، وبعد أن تصدّع هذا الدّرع، أصبحت المخاطر على كوسوفو كبيرة.

يتصاعد التوتر بين البلدين منذ عدة سنوات بسبب مقاومة كورتي المستمرة لتوصيات الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي السياسية، والتي كان من شأنها أن تُقرّب كوسوفو من تطبيع العلاقات مع صربيا مع تحقيق تقدم اجتماعي واقتصادي ملموس في الداخل. والآن يواجه كورتي معركة شاقة. لا يرغب أي من أحزاب المعارضة الرئيسية في الإنضمام إليه في تشكيل حكومة، وشعبيته العامة تتراجع بشكل متزايد، والولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي – الداعمان اللذان لا غنى عنهما لكوسوفو – يرفضان سياساته الداخلية والخارجية وتوجهاته القومية القوية.

تعتبر الولايات المتحدة كورتي عاملاً رئيسياً في تفاقم عدم الإستقرار في المناطق ذات الأغلبية الصربية، وتُحمّله مسؤولية غياب الإصلاحات الحكومية، مما أثار مخاوف بشأن الحوار مع صربيا وعرقل التقدم في عملية التطبيع. رفض كورتي العديد من المقترحات التي توسطت فيها الولايات المتحدة والتي كان من شأنها أن تُسهم في دفع الحوار قدماً. يُنظر إليه على أنه قومي يُفرط في التركيز على سيادة كوسوفو، مُتجاهلاً الإحتياجات المُلحة للتنمية الإقتصادية والقضاء على الفساد في أعلى الهرم وجعل كوسوفو جاذبة للمستثمرين الأجانب.

و ما يزيد الطين بلة هو افتقار كورتي للحنكة السياسية. تدخل كورتي بشكل غير حكيم في العملية الإنتخابية خلال الحملة الرئاسية الأمريكية عام 2020 بتأييده العلني لبايدن، مما أثار غضب ترامب. ومما زاد الطين بلة أن كورتي قرر في عام 2024 المشاركة في المؤتمر الوطني الديمقراطي في شيكاغو في حلقة نقاش بعنوان “المؤتمر الوطني الديمقراطي ودور الأحزاب السياسية”، وهو ما لم يرق لترامب على ما يبدو، وربما ساهم أيضًا في تعليق الولايات المتحدة للحوار.

لم تكن علاقات كورتي مع الإتحاد الأوروبي أفضل حالًا فقد وصل إحباط الإتحاد الأوروبي من كورتي أخيرًا إلى نقطة تحول عندما فرض الإتحاد عقوبات على كوسوفو وعلق اجتماعات رفيعة المستوى معه عام 2023. العديد من سياسات كورتي الداخلية والخارجية جعلته على خلاف مع الإتحاد الأوروبي، بما في ذلك فرض رسوم جمركية بنسبة 100٪ على السلع الصربية مع اتخاذ إجراءات أحادية الجانب لفرض سيطرته على المناطق ذات الأغلبية الصربية دون تشاور.

علاوة على ذلك، رفض كورتي تطبيق اتحاد البلديات الصربية الذي اعتبره الإتحاد الأوروبي ضروريًا لتطبيع العلاقات مع صربيا. لقد رفض علنًا أو قلل من أهمية نصائح الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، مُصرًا على نهج “كوسوفو أولًا”، مستخدمًا خطابًا قوميًا قويًا واستفزازيًا. كما يُلام أيضا ًعلى حالة عدم اليقين السياسي، لا سيما منذ انتخابات فبراير، أثناء توليه منصب رئيس وزراء مؤقت.

افتقاره إلى الحنكة السياسية
فشل كورتي للأسف في اختبار الحنكة السياسية كرئيس دولة. فعندما تشهد دولة ما توترًا سياسيًا متصاعدًا على الصعيدين المحلي والدولي، تُصبح الحنكة السياسية أمرًا حيويًا لمستقبلها ورفاهيتها. وقد فشل كورتي حتى الآن في إظهار الحنكة السياسية عندما كانت الحاجة إليها ماسة. إن الحنكة السياسية الحقيقية تنطوي على نوع من التبصر والقدرة على التكيّف ورؤية ما وراء اللحظة الراهنة للحفاظ على المستقبل. إن انشغال كورتي بقضايا تافهة ومتضاربة مع الصرب العرقيين وعدم قدرته أو عدم رغبته في التعاون والتنازل مع داعميه الرئيسيين – الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي – قد أظهرا بوضوح افتقاره إلى الحنكة السياسية.

تحدث أفلاطون في كتابه “الجمهورية” عن مفهوم “الملك الفيلسوف”. واقترح أن رجل الدولة الحقيقي هو من يتمتع بنوع من الحكمة والرؤية التي يفتقر إليها القادة العاديون. وقد ردد إدموند بيرك (Edmund Burke)، الأب الفلسفي للمحافظة الحديثة، نفس الرأي، حيث قال ذات مرة: “إن الدولة التي لا تملك وسائل التغيير هي دولة لا تملك وسائل الحفاظ”. ومن المؤكد أن رجل الدولة يتمتّع برؤية عميقة وقيادة بتلك الرؤية الواسعة التي يبدو أن كورتي يفتقر إليها بشدة.

آفاق تشكيل حكومة جديدة
على الرغم من فوز حزب كورتي، فيتيفيندوسجي (Vetevendosje)، بأغلبية نسبية في انتخابات فبراير، إلا أنه لم يتمكن من تشكيل حكومة ائتلافية جديدة، حيث رفض حزبا المعارضة الرئيسيان، الحزب الديمقراطي لكوسوفو(PDK) والرابطة الديمقراطية لكوسوفو (LDK) الإنضمام إليه. والآن، وبعد ثمانية أشهر من الخلافات السياسية، تمكن أخيرًا من تأكيد مرشّحه لمنصب رئيس البرلمان، وهو شرط أساسي لتشكيل حكومة جديدة. ومع ذلك، لا يزال يُكافح لتشكيل حكومة، وفرصه في ذلك تتضاءل.

وعلى الرغم من أن أحزاب المعارضة يُمكنها نظريًا تشكيل حكومة ائتلافية تضم الحزب الديمقراطي الكوسوفي ورابطة كوسوفو الديمقراطية وأحزابًا صغيرة أخرى، إلا أن فرص نجاحها أقل بكثير بسبب الإنقسام السياسي المُستمر بينها حول السياستين الداخلية والخارجية.

يُطرح السؤال على كورتي: إلى أين سيتجه من هنا؟ نظرًا للانقسام السياسي واحتمالية عدم قدرة كورتي أو أحزاب المعارضة على تشكيل حكومة جديدة، فمن الحكمة أن يدعو كورتي إلى انتخابات جديدة. سيكون هذا الإختبار النهائي لمكانته الشخصية والسياسية. في الواقع، إذا كان كورتي يعتقد أن أداءه كرئيس للوزراء في ولايته الأولى التي استمرت أربع سنوات كان ناجحًا، وأن أجندته السياسية وتوجهه الأيديولوجي هما ما يُريده الشعب، فلا داعي للقلق بشأن نتيجة الإنتخابات الجديدة. ومع ذلك، إذا رفضه الجمهور، فهذا يُشير فقط إلى أن سياساته ورؤيته لمستقبل البلاد لا تتماشى مع احتياجات الشعب وتوقعاته. وبالتالي، يجب عليه قبول رأي الجمهور.

الطريق إلى الأمام
يجب على أي قائد جديد ينجح في نهاية المطاف في تشكيل حكومة جديدة، بما في ذلك كورتي، أن يتخذ أولاً وقبل كل شيء عدة إجراءات لتخفيف التوتر وإظهار استعداد كوسوفو للتطبيع للولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، الضامنَين النهائيَين لأمن كوسوفو القومي والملتزمَين بسيادتها. لا يمكن لأي رئيس وزراء جديد أن يتجاهل نصائح وموافقة الجهات الخيرية الرئيسية لكوسوفو ويتوقع أن تصبح دولة مستقلة حقًا، على غرار الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي.

يجب على رئيس الوزراء الجديد العمل بشكل وثيق مع الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي بطرق عدة. يجب عليه أو عليها:
• تحسين التواصل وتبادل الآراء مع الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لبناء الثقة وبناء علاقة بناءة طويلة
الأمد لتعزيز تطلع كوسوفو إلى عضوية الإتحاد الأوروبي؛
• تعيين مبعوث خاص لقيادة الحوار مع صربيا لإثبات جديته في الإنخراط بطريقة بناءة للتوصل إلى اتفاق
والحد من الخطاب المعادي للصرب؛
• إعادة الإلتزام بالإتفاقيات السابقة التي تم التوصل إليها في عملية الحوار السابقة، وخاصةً اتحاد البلديات؛
• تنفيذ تدابير صغيرة وملموسة لبناء الثقة مع البلديات ذات الأغلبية الصربية لإظهار حسن النية والإستجابة،
بما في ذلك إجراء انتخابات بلدية جديدة، واستضافة فعاليات ثقافية مشتركة، وتوفير خدمات أفضل باللغة
الصربية في الحكومات المحلية، وعقد اجتماعات مشتركة منتظمة مع قادة البلديات الصربية؛
• الشروع في إصلاح اجتماعي واقتصادي واجتثاث الفساد وإشراك أحزاب المعارضة لحشد الإجماع والدعم
الشعبي.

يجب على القادة السياسيين في كوسوفو من جميع التوجهات الأيديولوجية أن يتذكروا أنه لكي تنجح كوسوفو وتزدهر، يجب عليها العمل بشكل وثيق مع الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي مع التركيز على التطورات المحلية على جميع الجبهات.

لا تحتاج كوسوفو إلى قومي أيديولوجي، بل إلى قائد ذي رؤية وشجاعة، ورجل دولة قادر على تلبية تطلعات الشعب إلى الأمن والاستقرار السياسي والنمو.

 
Copyright © 2025 Alon Ben-Meir Institute, All rights reserved.
You are receiving this email because you subscribed for Article Alerts lonben-meir.com.

Our mailing address is:
Alon Ben-Meir Institute
Park West Station
P.O. Box 20543
New York, NY 10025

Add us to your address book


Want to change how you receive these emails?
You can update your preferences or unsubscribe from this list