يشهد العراق هذه الأيّام فعاليات دورة خليجي 25 لكرة القدم التي تُنظم في البصرة، لأوّل مرّة منذ اكثر من أربعين عامًا، شهد فيها العراق عزلة وانفصالًا عن محيطه الجغرافي والطبيعي، وشهد شبابه، على مدى أكثر من خمسة عقود، ترديًا مهولًا وحروبًا وحصارًا وتشريدًا، ثم قتلًا وتهديدًا وتصفية جسدية، عندما رفعوا أصواتهم الحرّة مطالبين بالحياة الكريمة وتوفير الفرص لهم من أجل ضمان مستقبلهم وتطوير مهاراتهم وتأهيلهم نفسيًا ومهارياً للعمل.
إن الإقبال المهول الذي شهده الجميع على فعاليات البطولة وإصرار الشباب على حضور افتتاحها وفعالياتها ومنافساتها الرياضية، خير دليل على تعطشهم وتوقهم للممارسات الإنسانية والترفيهية بعيدًا عن الحروب واستلاب الإرادات وتغييب عقولهم واستغلال حاجاتهم لمآرب سياسية مشبوهة.
لقد عانى الشباب العراقي غربة ثقافية عميقة وهم في وطنهم، انعكست على طموحاتهم وخططهم المستقبلية، واضعفت من أواصر علاقتهم مع اقرانهم في الدول المحيطة، فولدت أجيالًا كاملة من الشباب العراقي تحت وطأة العوز والفاقة وتردي النظام التعليمي والتربوي وغياب مراكز التدريب والترفيه والتطوير، ولم تشهد هذه الأجيال أية ممارسات ثقافية أو رياضية أو ترفيهية كبرى، كما يحدث هذه الأيّام مع بطولة الخليج لكرة القدم. الأمر الذي يدفعنا للتذكير بأهمية تلك الشريحة فائقة الأهمية لمستقبل العراق، لاسيما وانّها تبلغ أكثر من نصف الشعب العراقي.
لقد غابت الخطط التطويرية والثقافية والرياضية عن برامج كافة الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال ـ هذا إن كانت لها برامج أصلًا ـ وتحولت وزارة الشباب والرياضة إلى حصة من حصص التقاسم ووسيلة لإرضاء هذا لحزب او ذاك، في معترك المحاصصة السياسية المقيتة، من دون الالتفات إلى أهميتها وخطورة وظيفة تلك الوزارة على خطط التطوير ومستقبل البلد، فأغلقت عشرات المراكز المخصصة للشباب ولتطوير مهاراتهم الثقافية والرياضية، وحُولت الأموال المخصصة لتطوير هذه المراكز، إلى مشاريع وهمية أخرى بعيدة عن اهتماماتهم، من أجل سرقتها في ظل استشراء الفساد المُطبق على كافة المفاصل الحكومية.
إنّ تطوير المستوى الثقافي ونشر الوعي في أوساط شريحة الشباب، من شانه أن يشكل خطرًا محدقًا على وجود الأحزاب الفاسدة وفرص احتكارها السلطة والتحكم بمصير الشعب، لهذا تعمد تلك الأحزاب، إلى إهمال الخطط وكل ما من شأنه تطوير مدركات الشباب وتنمية وعيهم الثقافي، بما في ذلك عدم صرف الأموال لإعادة افتتاح مراكز الشباب الثقافية والرياضية في المدن العراقية، وتوفير الكفاءت المدربة والمتخصصة للعمل فيها. وإذا ما أضفنا هذا كله إلى الإهمال المتعمد لوسائل الترفيه والتطوير الأخرى، كالمعاهد الثقافية المتخصصة ومراكز تنمية المهارات الفردية وتعلم اللغات، فأن النتيجة ستكون كارثية بكافة المعايير، لاسيّما عندما يعتقد وزراء الشباب المتعاقبون ـ غير المؤهلين في الغالب لمناصبهم ـ أن وظيفتهم تتلخص في بناء ملعب هنا او صالة ألعاب رياضية هناك، وكسب الجمهور الشبابي لأحزابهم وزعمائهم، وليس وضع الخطط والدراسات للنهوض بالواقع الثقافي والمعنوي والمهاري لتلك الفئة التي يستند إليها مستقبل العراق كلّه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطريق الثقافي
11 كانون الثاني 2023