سقط الشاه الإيراني الأخير محمد رضا بهلوي في عام 1979، فكان آخر حكام سلالة ملكية إيرانية يُقال إنها تمتد إلى الحقبة الصفوية، ولكن نظام الشاه الأخير ارتبط في الوعي الجماعي الإيراني بالاستبداد والتبعية للغرب، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية، وسمي لذلك بشرطي الخليج.
كان أن عاد رجل الدين الإيراني المنفي روح الله الخميني من منفاه الفرنسي في فبراير (شباط) 1979 على متن طائرة "إير فرانس"، لم تكن ملامح النظام السياسي الجديد واضحة بعد. واعتقد كثير من الإيرانيين ومن العرب واللبنانيين أنه مرجعية دينية عارفة ومتواضعة سيشارك في رسم مستقبل إيران لا أن يحتكره، خصوصاً وأن الثورة حينها كانت فضاء رحباً يجمع تحت رايته اليساريين والماركسيين الإيرانيين وحزب "تودا" الشيوعي ومجموعات "مجاهدي خلق" والقوميين من الجبهة الوطنية، وفئات مدنية مختلفة إلى جانب رجال الدين. وكانت المطالب الثورية العامة تجمع جميع هؤلاء تحت رايتها وهي إسقاط الشاه وتحقيق العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية وتحرير القرار من تبعيته للبيت الأبيض. وأضاف طلاب الحوزات الدينية ورجال الدين الشيعة ذوو السلطة في المدن الإيرانية المقدسة على هذه المطالب هدفاً إضافياً وهو إقامة "جمهورية إسلامية يترأسها الخميني".
توق المثقف العربي إلى رفع الهزائم
لم يكن سقوط شاه إيران مجرد حدث إيراني داخلي، بل أدى إلى ما يشبه الزلزال الجيوسياسي والفكري في المنطقة بأكملها، والمنقسمة بين القطبين المتصارعين الأميركي والسوفياتي. وكان الاتحاد السوفياتي قد جذب منذ ثورة البلاشفة الثوريين العرب ومنهم لبنانيون انجذبوا لاحقاً إلى تلك الثورة الإيرانية التي "أسقطت حكم الشاه التابع للإمبريالية" وفق ما كان يطلق عليه في ذلك الزمان بين المثقفين التغييريين أو التواقين إلى التغيير مهما كان عنوان هذا التغيير طالما أنه يتم عبر الثورة الشعبية، حتى أن كلمة "مثقف" ارتبطت بوصفه ثورياً في تلك الحقبة من القرن الـ20 في معظم العواصم العربية.
كان معظم المثقفين العرب واللبنانيين الذين وقفوا إلى جانب الثورة الإيرانية من اليساريين الذين يتلمسون الخلاص من أنقاض القومية العربية والانتصار الخطابي الناصري، ومن ركام هزائم الأنظمة العربية مع إسرائيل بعد النكبة والنكسة وغرق الثورة الفلسطينية في رمال لبنان المتحركة وتوقيع مصر السادات اتفاق كامب دايفيد مع إسرائيل. كلها جعلت الثورة الإيرانية وكأنها "كرنفال الثورة" الذي كان المثقفون العرب واللبنانيون يشاركون فيه أينما حلّ سواء في كوبا أو في فيتنام أو في كوريا أو في الصين وكذلك في إيران، فأقبلوا على الثورة الجديدة للتخفيف من وطأة الهزائم وهلّلوا لوصولها ودبّجوا فيها الكثير من القصائد والمقالات.
في لحظة تاريخية بدا فيها أن كل الثورات العربية انتهت إلى استبداد جديد، ظهرت الثورة الإيرانية كرجاء أخير، خصوصاً مع ارتباك الغرب أمام صعود قوة لا تشبهه. ولهذا كان الترحيب بالثورة على أشدّه في صحف يسارية لبنانية وفلسطينية صورت القائد الجديد للثورة أي الإمام الخميني على صفحاتها الأولى كرمز تحرري لا يقهر. حتى أن الحديث والتحليل دار في أروقة الأحزاب الشيوعية العربية، وعلى رأسها الحزب الشيوعي اللبناني، عن نموذج جديد للثورة مناهض للإمبريالية ولا يغير ظاهره الديني في كونه تحررياً.
كانت الثورة الإيرانية انتصاراً رمزياً لكل من خسر معاركه، أو لم تتح له فرصة خوضها بعد. وبالطبع فإن المثقف العربي واللبناني لا يملك على الأغلب فهم نظام حكم "وليّ الفقيه" وهو نظام جديد على المذهب الشيعي أرسته الثورة الإيرانية، ولم يملك أيضاً أدوات تحليل دقيقة لفهم بنية النظام الخميني، ولا درس البنية الداخلية للثورة في العموم، إنما أثارته صورة الشارع الذي يهتف ويطيح بالطاغية.
بين عامي 1979–1980، اخترق شعور عام بالانبهار ساحات فكرية في بيروت، كان من بين المنبهرين الكاتب السياسي والمفكر اللبناني حازم صاغية الذي قال حينها إن "الثورة الإيرانية كانت اللحظة الأولى منذ زهاء عقدين يظهر فيها نهوض شعب يمسك بمصيره بيديه". ثم أعرب في ما بعد عن أنه كان مأخوذاً بهذه الثورة أكثر مما يجب. وفي المرحلة اللاحقة عرف صاغية في كتاباته الصحافية العربية أو في كتبه السياسية بتوجهه السياسي المناقض تماماً للتوجه الثوري الإيراني، خصوصاً مع وصول تصدير تلك الثورة إلى لبنان وفلسطين عبر تأسيس "حزب الله" و"حماس".
ولم يكن صاغية فريداً في موقفه الأولي من الثورة الخمينية، إذ كان المثقف القومي العربي يومها والمفكر والباحث رضوان السيد قد وجد في هذه الثورة فرصة لتجاوز الهزائم القومية، معتبراً سقوط الشاه فتحاً رمزياً نحو التجديد. وبالطبع كما حازم صاغية انتقل السيد إلى طرف النقيض في موقفه من إيران بعدما تكشّفت الثورة عن وجهها الفعلي. كذلك فعل المفكر والقيادي الشيوعي الراحل كريم مروة الذي كان قد وصف الحدث بأنه "إعادة لإيماءة الحداثة في الشرق"، واعتبر أن الثورة الخمينية تفتح نافذة على أصالة جديدة تتجاوز تحوّل الغرب. أما ياسين الحافظ المثقف الماركسي القومي العربي والسوري فقد كتب في تعليق صحافي عن الثورة الإيرانية بأنها "تقويض زيف القيم الغربية في شرق لم تولد فيه سوى أنصاف حريات".
الأوربيون يتراجعون
كما في العالم العربي ولبنان كذلك في فرنسا وأوروبا، حيث كانت ثورة طهران تُقرأ في ضوء الثورة الطلابية 1968، فهلل يساريون كثر للثورة الإيرانية معتبرين إياها صفعة للإمبريالية، وكان على رأسهم ميشال فوكو الذي كتب في البداية مقالات مفعمة بالإعجاب، لكنه تساءل لاحقاً وكأنه يتراجع عن موقفه، "أهذه هي الثورة التي كنت أبحث عنها؟". وقامت بعض الصحف اليسارية الإيطالية والإسبانية بتصوير الثورة الإسلامية كأنها بديل تقدمي بروح دينية جديدة، لكن مع تصاعد القمع، خفتت هذه الأصوات.
لم يحتج الأمر إلا أشهراً قليلة ليتبيّن للجميع بأن ما ظنوها ثورة تحررية شعبية ضد الإمبريالية، كانت تتحول إلى دولة دينية ثيوقراطية باسم "ولاية الفقيه" تحت سلطة الولي الفقيه وحراسه من الحرس الثوري.
بسبب الضجيج المنبعث من قطار الثورة لم يتمكن المثقف العربي من سماع صوت الداخل الإيراني بوضوح، خصوصاً أصوات أقرانهم من المثقفين اليساريين الذي واجهوا مضايقات كثيرة منذ استلام الخميني للحكم، وتحولت المضايقات إلى محاكمات أدت بالكثيرين إما إلى السجون أو إلى الإعدام بسبب معارضتهم النظام الديني الجديد الآخذ بالاستيلاء على السلطة بصورة حثيثة بعد استبعاده سائر الأطياف الإيرانية المشاركة في إشعال الثورة وإسقاط الشاه.
كان المفكر الإيراني عبد الكريم سروش يصرخ "لقد سلمنا الثورة إلى رجال الدين، فابتلعوها كلها". وسروش المولود عام 1945 في طهران كان أحد أبرز المفكرين الإيرانيين، ومن الشخصيات التي لعبت دوراً فكرياً مهماً خلال وبعد الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979. عمل في بدايات الثورة في وزارة الثقافة وفي "مجلس الثورة الثقافية" الذي أُنشئ لإعادة صياغة التعليم في إيران بما يتوافق مع قيم الثورة، لكنه ما لبث أن ابتعد تدريجاً عن الخط الرسمي، وأصبح من أبرز منتقدي هيمنة رجال الدين على الدولة والمجتمع، قبل أن تمنع كتبه وطرده من التعليم الجامعي. أما الشاعر سعيدي سيرياني أعدم عام 1981 لأنه رفض أن يمتدح النظام في قصائده، ومنع المسرحي بهمن فرمان آرا من إخراج الأفلام. وغيرهم كثيرون من مثقفي إيران اليساريين الذين تعرضوا للاضطهاد مبكراً. وكانت النساء اللواتي نزلن إلى الشارع بلا حجاب للمرة الأخيرة في مارس (آذار) 1979، أولى ضحايا التغيير.
فيديل سبيتي كاتب وصحافي لبناني
منقول عن موقع اندبيندت عربية