المُجرَّدُ والمَلموس

                                                                                لأُمّي ، أمينةُ أسراري .. ألقَتْ آخر نظرةٍ

                                                                                على أحلامِ بِكرها .. لم ترَني منذ 42 عاماً ،

                                                                                 ماتَتْ بحسرة رؤيتي !

                                                                            

ماذا تفعلُ خلالَ قطيعتين ..

حَجْرٌ في المستشفى ، وحَجْرُ كورونا ؟

تَتَسمّعُ موسيقى ، تقراُ .. ثمَّ تستريح ،

فتروحُ تُقَلِّبُ ذاكرتكَ .. أوراقاً قديمةً ورسائلَ لم تُبعث ..

 

" أخشى العفويَّةَ ، ليس لأنني أُخطِّطُ لكل شيء .. وأريدُ كل شيءٍ تحتَ سيطرتي !

إنما لأنَّ العفويةَ قد تدفع إلى السطحِ ما هو عابرٌ ، غير أصيل " رولان بارت

فمن أجلِ أنْ نستحضر ذاكرة شيءٍ ما ، نحتاجُ إلى صوَرٍ تدعم ما نفكر به ونجعله

قابلاً للسرد . ذلك أنَّ الذاكرة الفوتوغرافية تقدّمُ الدلالة البصريّة لعملية التذكُّر ،

التي بدورها تكون قابلة للإستخدام  في التواصل ... إلخ

[العين الرائية هي ما يُحرّكُ الذاكرة . فمن يمتلك "عيناً مُبصرةً" يمكنه أن يستنهضَ

ذاكرته ويُحييها .. وإلاّ ستظلُّ نظرةً جامدةً ، تُحملِقُ في الموضوع ، عاجزةً عن كشفِ

التنوع الحيوي المُخبّأ في الذاكرة ...] إنغه بورغ باخمان ( البصيرُ يستحضرُ الذاكرة من

خلال تحفيزٍ أشدُّ كثافةً لبقية الحواس .. السمع واللمس والشم والتذوق ..ي.ع )

 

2

كلّ صباحٍ ، قبلَ الفطور ، أُصبّحُ عليها بالخير ..

مُسرعاً أَمُرُّ على صورتها المشنوقة فوقَ الحائطِ،

أَتَحاشى ما فيها من نظرةِ إشفاقٍ ..

وعتابٍ يُوشكُ أنْ يتدحرَجَ من شفتيها ..

أقولُ لها " لكِ ما تبقّى من روزنامةِ الكونِ ، وأنت هناك ،

تَعِبتُ مثلَ حصانٍ عائدٍ من معركةٍ خاسرة .. "

آهٍ ، كمْ تَسلّقنا ، ولمْ نَزعج نومَ الجبال !

دُرتُ حولَ الشمس ، حتى دخْتُ ،

بمزماري عزَفتُ لكلِّ التائهينَ خلفَ الضباب ،

نَبَشتُ مدافِنَ الهواء .. أَبحثُ عنكِ ،

بين الغيوم ضَيّعتُ مراكبي ،

إلعنيني ، كما تشائين ..

قد ضاقَ بي جَسَدي حنيناً لحُضنكِ ،

والنفسُ إستفاضتْ رِقَّةً ثكلى ..

فأفسحي للقلب قبراً في تُرابك ..

سأقطعُ العمرَ إليكِ ، وفي يدي كأسُ الفراغِ ،

وفي الكأسِ دَمعة !

3

مَنْ ذا أسرَفَ في مِنفاخِ الريحِ ..؟

أَجَّجَ الغبارَ فّجُنَّ في الصدورِ الرَبْوُ ؟!!

.....................

 كانت أُمي تَنقُشُ الدمعَ ،

تَنتِفُ الصوفَ وتحوكُ  غَزْلَ غَيبتي ،

تسقي وردَ ذكرايَ ..

بقلبٍ مهجورٍ مثل بئرٍ جفَّ ماؤه .. إمتلأ بالوحشة ، فأتسعَ صداه !

فيما كنتُ أُفَلسفُ خَساراتي  وجراحي باسماً ..

هيَ مَنْ حاكَتْ بلوزَ الصوف لي وإنتظرت ..

لكنها مَرِضَتْ من خيبةِ الأمل : "المُحاربُ" لمْ يَعُدْ ، ولن يعود ..

لَنْ يعود .. لنْ يعود !

.........................

لمّا أَزل وسط الزحامِ ، أَركضُ على الطريق ، كي لا يتهاوى ظلّي ،

فالطُرُقاتُ أكَلَتْ أَقدامَنا ، وما زِلتُ أحَدّقُ في وَشمَ الظلال ..

أحلَمُ بضوءٍ في زحام الظلامْ ..

4

أُمّاه .. مثلكم كُنّا ،

إذا إنهمَرَ القصفُ ، وعَربَدتِ السماء ، نَتلو أنفاسَنا ،

......................

نَجَوتُ ونَجوتِ ،

كذلك الضَجَرُ ، هو الآخرُ نَجَا بجلده ،

لم يسقطْ جثة على رصيفِ ما فاتَ من حروبٍ .. وما سيأتي !!

لكن علينا  أنْ نَحترِسَ للمرّاتِ التاليات ..

لأنَّ القذيفةَ الذكيَّةَ لِصَّةٌ ماهرةٌ !

فإقفلي الأبوابَ والشبابيكَ ..

وإقفلي جَسَدَكِ جيداً !

كي لا تُغري طلقةً لامعة بتقديمِ موعدِ القيامة ..!

فتشطُبَ العناقَ ساعةَ نلتقي !!

 

5

لمْ تكنْ عاقِراً ،

دَحرَجَتْ لهذه الدنيا ستةَ رؤوس !

كانت لا تنسى الصلاةَ في مواقيتها ..

أواخر الليلِ ، لمّا تنامُ ، تَبتَهِلُ كي تراني أعودُ سالماً !

مثلَ الخُلدِ كنتُ أُفتِّشُ عن ثَقبٍ في هذه الدنيا ،

لأهرَبَ منها إلى فضاءٍ مُنوَّرٍ ..

......................

غَفَرتُ لها ولادَتي ، يومَ لَفَّتِني بفوطةٍ من النصائحِ :

"كنْ نَظيفَ اليدِ واللسان ، مُستقيماً .. حتى في أَحزانك" !

رَمَتِني بأجنحةً رخوةٍ في عالمٍ لا يعرف الرحمة ...

إمتثَلتُ فكانَتْ أوَّل السيفِ رقابُنا ،

وآخرُ الغروبِ حَشرجاتنا ..

وما نَدِمنا !!

.......................

 أَتدرينَ يا أُمّاه ..؟!

رأيتُ كثيراً ، وقَرَأتُ ما تَيسَّرَ لي ،

سَئمتُ الهيامَ بتجريدات ، تَتَنكّرُ لأصلها .. الملموسات !

وحينَ إمتثَلتُ لضميري ولحريَّتي ، إِنسحَبتُ من المهرجان ،

صِرتُ أعزفُ تقاسيمي لوحدي ، وأُغنّي "صولو" ..

لكنْ ما صَفَّقَ لي أَحدٌ !

أنا الملموسُ ، لا المُجرَّد !

أَكانَ علَيَّ أَنْ أموتَ كي يُصفِّقوا ؟!!

أم أَنْ أخونَ فيرجمونني ضميراً إنفصلَ عن واو الجماعةِ كبعيرِ "طَرَفَة " ؟!!

6

أُمّاهُ ، خبّأتُ لكِ حكاياتٍ كثيرةً ، كنتُ سأَقصَّها عليك ،

لو لَمْ تستعجلِ الرحيل !

........................

أَحبَبتُ ، توَلَّهتُ وعشقتُ كثيراً ، لكنني لمْ أَغدُ خبيراً في الحبِّ ..!

بَقيتُ غُرّاً .. تُغويني إبتسامةٌ ،

يُتوّهُني نَهدٌ بَضٌّ ، ناهضٌ ..

تُربِكُني غَمزَةٌ ، أَحمَرُّ لها خجلاً ..

فأنا لمْ اُفطمْ  بعدُ عن الحب ، يا أُمي !

تُكهربُني لَمسَةُ أُنثى .. يَرتَجُّ لها جَسَدي ،

يَرتَجفُ السريرِ لها ، كرفيفِ عصفور ..

وكلَّما هدّني العِشقُ هَوَيتُ أَصرخُ بينَ نَهدين بشفاهٍ مُشرعَة ..

أُفرّطُ الضوضاءَ قُبلَة ، قُبلة !

........................

إنْ كنتُ نسيتُ كثيراً ، فما زِلتُ أَحفَظُ عن غيبٍ كلَّ الرعشاتِ ،

وشوشات الوسائد .. وعطورها ..

كَتمتُها ، كما يَتَخفّى تحتَ الصخرِ يُنبوع !

.......................

.......................

 أربعةُ عقودٍ نُرضعُ الأمل .. ولمْ أنتبه !

أربَعَةُ عقودٍ مَرَّتْ ولم نلتقِ ،

رنَّ التلفونُ باكراً !

تطلَّعتُ من الشباك .. رماداً كانَ الفجرُ ،

أحسستُ بلسعةٍ في القلب ..

فعرِفتُ : " ماتَتْ أُمّي "،

أَلقَتْ آخر نظرةٍ / حسرة على غَيبَتي ..

رَحَلَتْ ، هادئةً دون وداع ،

كأنها ستعودُ بعد قليل ، لنُكمِلَ الحكاية !!

 

                                                                                     يحيى علوان

                                                                                              برلين  5.2.2021