تحت جنح الظلام المشوش ، بخيوط ضوء تأتي من بعيد باهتة ، ترسم ظلالها المتكسر على جدار متهالك ، تسلق بصمت الى داخل باحة الدار، تلفت ذات اليمين وذات الشمال ، لم يرى إلا اشباح اشياء لم تثر اهتمامه ، تحرك بحذر واقترب من باب غرفة غير موصد باحكام ، وضع اذنه على حافة الباب محاولاً إلتقاط صوت تنفس أو شخير، إطمأن ودفع الباب بهدوء ، أنهال عليه ظلام المكان ، اغلق الباب واشعل مصباحه اليدوي ، إنكشف أمامه مشهد مُحبط ، فلم يجد سوى اواني معدنية قديمة صدِئة ، وحطاماً من اواني فخارية وزجاجية وخرق قماش بالية متناثرة على ارضية الغرفة ، مطّ  رقبته من خلال الباب ليتأكد من خلوّ باحة الدار، ارتعب وتسمر في مكانه فقد لاحظ انبعاث ضوء من شق باب غرفة اخرى ، بقي يراقب لدقائق عديدة ، لم يسمع صوت حركة ، اقترب بخطوات قط متأهب للأنقضاض على فريسته أو الهرب ، تلصص من خلال الفتحة الضيقة فوقع بصره على مشهد اثار حزنه ، امرأة طاعنة في السن تتدلى قدميها النحيفتين من حافة سرير متهالك ، مدت يدها المرتجفة لتناول قدح الماء من على طاولة صغيرة امامها ، انقلب القدح وانسكب ما تبقى فيه من الماء ، ثم تهاوى جسدها الهزيل على الارض ، اعتصر المشهد قلبه ودون اكتراث لأفتضاح أمره ، اسرع إليها :

- السلام عليك يا حاجّة .

 رفعها بين يديه ليعيدها الى سريرها .

-- بصوت مكتوم ومرعوب وهي ترتعش كالسعفة اجابت : مـ...من أنت ؟  حمامي ؟

لشدة خوفها وارتباكها خانها التعبير فكررت : حـ... حـرامي !

ناولها كأس الماء : تفضلي يا حاجّة اشربي واهدأي ولا تخافي مني .

رشفت جرعة ماء ازاحت قليلا من خوفها : لم تقل لي من أنت وكيف دخلت بيتي ؟!

ركزت عينيها الغائرتين في محجريهما في وجه الغريب عسى أن تتعرف عليه !

- اعذريني فقد جأت ابحث عن ما اسد به جوع اطفالي الخمسة وزوجتي المريضة !

لمع الحنان في قلبها كقطعة ذهب من الزمن الماضي ، ومرّ مشهد اطفالها سريعا على شاشة الذاكرة التي فزت من سباتها العميق ، فرأت كيف كانوا يتراقصون حولها بأنتظار مائدة الطعام اللذيذ الذي كانت تُعدّه لهم كل يوم ، ارتسمت ابتسامة واهنة على تجاعيد خديها الذابلين وقالت :

-- لماذا لا تعمل لتطعم عائلتك بلقمة حلال ؟!

- فقدت العمل منذ فترة طويلة وحاولت عبثاً أن اجد عملاً جديداً !

رقّ قلبها وقالت :

-- مدّ يدك تحت السرير وناولني الصندوق الخشبي .

وضع بين يديها الصندوق الصغير ، رفعت الغطاء ودست يدها فأخرجت صرة قماش قديمة ، فتحتها لتكشف عن رزمة نقود ليست بالكبيرة وقالت :

-- تفضل فهي حلال لك لتطعم عائلتك !

اصابه الارتباك وتصبب العرق من جبينه خجلاً ، حاول أن يغير من الحديث فسألها :

- هل لديك أحد يرعاك ويطعمك ؟

-- أبنائي هاجروا الى بلدان بعيدة هرباً من الحروب ، الأصغر منهم وعائلته غرقوا في البحر وزوجي توفى منذ سنتين . التمع الضوء الحزين منكسرا على دمعة وهي تنساب في اخاديد حفرها الزمن على وجهها ، وخرجت من فمها آهة اشبه بالنحيب !

ساد الصمت في سكون الغرفة المشبع بالرطوبة ورائحة عفن الأفرشة القديمة .

- كيف اسمح لنفسي أن آخذ نقودك وأنت وحيدة بلا مورد !

--  أنا لم يبقى لي من العمر طويلاً  وقليل من الطعام يكفيني ، ولا يرضى ضميري أن يبقى اطفالك بلا طعام ، واُحلفك لن تخرج إلا والنقود معك !

قبل جبينها والابتسامة تشع على وجهها وقال :

- سأقتصد بشراء الطعام لنا جميعاً لحين حصولي على عمل ، وأوعدك بأن زوجتي ستأتي لك يومياً بالطعام وتقوم بخدمتك !

سحب الغطاء فوق جسدها النحيل ودّعها وخرج .

عبد الرضا المادح

2020.04.20