الحكاية:

في ليلة شتوية قارسة البرودة، شديدة الظلمة وجدت لي مُتَّكأً فوق عرقوب متململ من رمال الخوف عند حدود الوطن المُستباح فاتخذته ملاذاً آمناً لي من رصاص وحوش (القبائل الطائفية السياسية!) القادمين بأذيال الغزاة والباحثين عن الرؤوس المتسائلة لـ(اصطيادها)!

تتردد في ذهني مقولة عالم الآثار التاريخية (صموئيل نوح كريمر):

(التاريخ يبدأ من سومر)!

(سومر):

  • أرض (سيد القصب)!

في المدونات التاريخية مسميات عديدة لبلاد (سومر) ومنها:

  • (بلاد الملوك المتحضرين)!

تأملت من مخبئي إحدى طبعات الأختام الاسطوانية في العصر الأكدى الذي عثر عليه في مكتبة آشور بانيبال في نينوى والمحفوظ في (متحف بير غامون) في برلين...تلك الاسطورة التي يعود تاريخها إلى سلالة (ابن البستاني!) الذي صار ملكاً (سرجون الأكدى) (2334 -2279 ق.م).

ذلك الرُقُمْ الطيني الذي يحتوي على 396 سطراً، ويظهر فيه الملك (إت أنا) يَعرِجُ إلى السماء على ظهر نسر ضخم في الألف الثالث قبل الميلاد...قاصداً (عشبة) مزروعة في السماء تُشفِيه من العُقْمِ ، ويستجدي عطف الآلهة لتمنحه وريثاً للعرش، فيستجيب الإله (شمس) لدعوته و ينظر إليه بعين العطف، ويرشده إلى مكان نسر حبيس ومعلول، نبذته الآلة لِغَدرِهِ بجارِهِ...فيحرره من مَحبسه، ويشفيه من دائه، ويدربه من جديد على الطيران لقاء أن يطير به إلى السماء(الرابعة )، حيث (عشبة) الإخصاب التي تتعهدها  الآلهة (عشتار) سيدة الحب والولادة، بالرعاية والسقاية، ومنها إلى (أنو) في السماء (السابعة) كي يمنحه من صلبه (بالح) وريث العرش السومري الرابع عشر!

قرأت بإجلال أقدم أبجدية عرفها التاريخ أبدعتها البشرية على أرض سومر منذ حوالي 3200 سنة قبل الميلاد (الكتابة المسمارية) بعد أن أغنى أهل (سومر) أبجديتهم (الصورية) كأول شعب يعبر عن فكره تشكيلياً بتصوير الأشياء كأبجدية للتفكير والتعبير، قبل أن يرتقي بها إلى طور التجريد الرمزي الشبيه بالمسامير... حيث كانوا يكتبون شرائعهم وسيَّرهم وشعرهم وأدعيتهم وانتصاراتهم وأساطيرهم على ألواح طينية بأدوات مدببة كالمسامير!

اراقب وَهْنَ النسر حاملاً الملك (إت أنا) وسقوطه للأسفل من شدة الإعياء نحو اليابسة... تخفق جناحاه بقوة فجأة ممتنعة عن الاستسلام للتعب، حين يسمع النسرُ حلم (إت أنا)، كما جاء في (النص) المحفور على رُقُمٍ طيني من سفر التاريخ:

(رأيت أننا نمضي عبر بوابة "آنوا" و"إنليل" و"إيا"، هناك ركعنا معاً، أنا وأنت، ثم رأيت أننا نمضي معاً، أنا وأنت عبر بوابة "سن" و"شمس" و"أدد" و"عشتار" هناك ركعنا، أنا وأنت رأيت بيتاً فيه نافذة غير موصده دفعتها، فانفتحت وولجت إليها، فرأيت هناك فتاة مليحة الوجه مُزَيَّنَة بتاج، وهناك عرش منصوب، وتحت العرش أُسودٌ رابضةٌ مزمجزةٌ، فلما ظهرتُ لها قفزت نحوي، عند ذلك أفقتُ من نومي مذعوراً)!

اصغيت لحديث النسر السومري مع الملك (إت أنا) يأتيني كهمس من (نص مسماري) بين الرُقُمِ الطينية التي أفلتت من أيدي الهمجية عبر نوبات الخراب التي تعرضت لها بلاد ما بين النهرين!

تتسع مخيلة عقل (السومري) في الألف الرابع قبل الميلاد وهو ينظر من طبقات السماء العليا إلى الأرض...تتسع أحلامه وتتضاءل الأرض...ساعياً للتحرر من قيود المكان والزمان والصعود إلى سماء الآلهة بحثاً عن تحقيق أحلامه لإدامة سخاء الحياة!

في ذلك الزمان السومري "السحيق!" الكامن فينا... كان(السومريون) كما يؤكد المنقبون...أول من:

(اخترع الكتابة، وابتكر الدولاب، واخترع المحراث، وحَوَلوا اللّبْنْ الطيني إلى آجر بِشَيّه بالنار، وخطّطوا الترع والأقنية وحفروها بإتقان لنقل الفائض من مياه الفرات ودجلة إلى المناطق العطشى، وتميز عصرهم بتطور الزراعة وفن المعمار والأدب والأساطير ووضعوا أسس علاقة المَلِكِ بالرعية!

وابتكروا التقويم والمقاييس، فكانت سنتهم من اثني عشر شهرًا، ونظام العدّ عندهم مبنيًا على الوحدة «ستين» وعلى أساس هذه الوحدة جُعلت الساعة ستين دقيقة، والدقيقة ستين ثانية، وقُسّمت الدائرة إلى ثلاثمئة وستين درجة!

وكانت «المينا» وحدة الأوزان عندهم تنقسم كذلك إلى ستين جزءًا يدعى الواحد منها "شاقلاً"...

ومنذ الألف الثالث قبل الميلاد وضع طبيب سومري لوحة دوّن عليها أكثر من اثنتي عشرة وصفة طبية لمعالجة الأمراض المختلفة، وشرح فيها كيفية استعمال الأدوية، وحدّد ما يؤخذ منها بالفم وما هو للاستعمال الخارجي. كما ذكر المواد التي تتركّب منها تلك الأدوية!

لذلك يعتبر السومريون بُناة أقدم حضارة مدنية متطورة في العالم)!

يقول د. عبد الأمير الحمداني:

(في أوروك كانت المدرسة الأولى، وأول مؤتمر ومجلس مُنتخب، وأول مؤرخ، وأول حالة  ضرائب، وأول سابقة قانونية، وأول وصف للأدوية، وأول جمعية للمزارعين، والتجربة الأولى في حدائق شجر الظل، وأول تجربة لفهم الكون والوجود، والمُثل الأخلاقية الأولى، وأولى الحِكَم والمقولات والأمثال، والأسطورة والملحمة الأولى، والمناظرة الأدبية الأولى، والحكاية الأولى للبَعِث، والحالة الأولى للاقتراض الأدبي، وأولى الأعمال البطولية للإنسان، وأول أغنية حب، وأول فهرس للمكتبة، والعصر الذهبي الأول للإنسان، والمؤثرات الأولى، وأول صور أدبية، وأول رمزية للجنس، وأول تهويدة)!

وبعد سقوط (سومر) على أيدي (القبائل السياسية الطائفية والاثنية المتوحشة عام ثلاثة وألفين وما بعدها) بعد ان اغتصبتها الدكتاتورية واستباحت كينونتها عقود مريرة...لم اجد مفراً إلاّ ان اكتب:

"سومرُ" تَصْطَّفُ إلى طابورِ الأيتامِ!