الترنيمة الثامنة
(لا تكتفي الحروب بالكشف عن أسوء غرائزنا، بل تصنعها) ..."أمين المعلوف"
الآن حان الدرس الأول ...
الطريق الى المدرسة ممتعاً...وخاصةً الأيام التي يوصلها أبوها اليها .... تجلس (فاتن) جنب أبيها عندما تُجاز أمها من العمل، وتبقى في البيت، دوماً تلح عليه أن يعلمها السياقة... يوعدها ويقنعها أنه سيدربها حينما تبلغ الثامنة عشر من العمر... تمنت لو كان لها أختاً وأخاً.
منذ عامين تَخرجتْ من دار المعلمات، الذي دخلته مرغمة بعد استشهاد أبيها وعجزها عن تقبل فراقه ... تلكأت في دراستها بسبب حالتها النفسية بعد أن كانت من المتفوقات... استجابت لنصيحة أمها ... تخرجت من (دار المعلمات) وتعينت بمدرسة قريبة من دارها.
بعد اجتيازها المحنة بسنوات، استعادت بعضاً من صحتها... عاودها الأمل في الرجوع الى الدراسة واكمال الجامعة... قدمت امتحاناً خارجياً ونجحت فيه، وهي تنتظر قبولها في الكلية.
بعد انقضاء ثلاث سنوات في التعليم سيسمح لها بمواصلة دراستها.
تألقت بين زميلاتها ... فالتعاون بينهن في أداء الواجبات المدرسية قائم، كرفعة العلم واعداد كلمة الإدارة والمدرسات، ومساعدة الطالبات في حل مشاكلهن ... تَعِدُ ما يوكل اليها من مهام برحابة صدر ونشاط ... وجدت الاستعداد لهذه المهام دافعاً لها لتنمية اطلاعها على المعارف والفنون، ولتطوير قدراتها وموهبتها في الكتابة الأدبية ... أصدرت نشرات مدرسية بمساعدة التلاميذ الموهوبين.
يومٌ غير عادي تشارك فيه المدرسة بمهرجان مع كل المدارس بيوم اللغة العربية (يوم الضاد) إحياءً للغة العربية وآدابها... أوكلت المديرة اليها مهمة التحضير للمهرجان...على مدى أكثر من شهر وهي تتنقل بين المكتبات... تنتقي عبارات وأبيات شعرٍ من هنا وهناك، تؤلف بينهما وتسهل بعضها لتتناسب مع مدارك التلاميذ...
خرجت منتصرة على متاعبها بعد أن وافقت لجنة المهرجان في الوزارة على برنامجها وأقرته المديرة.
في صباح اليوم المقرر للمهرجان حملت حقيبتها، التي احتوت على برنامج المهرجان ودفتر خاص بها تدون ما يعن على ذاكرتها من أفكار، ودفتر الخطة المدرسية ودفتر درجات التلاميذ... خرجت مسرعةً وتعليق أمها المعتاد يلاحقها (كأنك تلميذ صغير يحرص على حمل كل كتبه خوف أن ينسى كتابا يُعاقب بسببه!) ... هذه المرأة التي رفضت الزواج بعد أبيها حفاظا على ما ربطها به وحفاظا عليها من تسلط الغرباء... تسير في طريقها مبتهجة لتعليق أمها وبسمة طفولية على شفتيها، ووجه أمها يملؤو ناظريها.
وصلت مبكرة ... نظرت لباحة المدرسة ...غُسلت أشجارها وباحتها، عَدلت قاعة المدرسة فستكون مكاناً للاحتفال...هيأت الإذاعة المدرسية ... ثم ذهبت الى صفها، تهيأه للدرس بعد الانتهاء من الاحتفال.
كرهت الحرب والسياسة كرهاً لا مثيل له فهما قهرٌ ومآسي لا مبرر لها، وما يؤخذ بالقوة لابد من عودته لأصحابه وما الحرب سوى وبال وجريمة يدفع المجتمع ثمنها سواء طالت أو قصرت... أمسكت طبشورة وخطت على السبورة (بسم الله الرحمن الرحيم " نون والقلم وما يسطرون") ... اختارت المرحلة السادسة...وضعت دفتر الخطة أمامها ودفترها الخاص الذي جعلت الجزء الأول منه لما يُعجبها من أشعار وأقوال والجزء الثاني لكتابة أفكارها، تحمله كحرز تخاف عليه من الضياع. أمسكت قلمها وكتبت:
حل الشتاء بين شحة الوقود وغضب الطبيعة الذي لا يقهر ... رحلت العصافير التي عشقتها مع آخر ورقة ساقطة في هذا الخريف ... لم يبقَ الا صدى وشوشتها وأنين ذكرياتي التي لم أجد أذناً أوفى منها لآلامي وأحلامي، لم يبق على الشجرة سوى بقايا أكياس بلاستيكية تطايرت لتعلق على أغصانها الجرداء، كم من ليالٍ أوحت لي أنها عصافير عجزت عن اللحاق بربعها!
انقضت العطلة الربيعية ... انحسرت موجات البرد القارص تاركة الأشجار تخرج براعمها الجديدة ... آملة بأيام أجمل من التي رحلت ...حلّ طائر غريب على أغصان إحدى شجرات التوت...طائر اجتمعت تحت جناحيه ألوان زاهية ... تبرعمت كل الأشجار فآبت العصافير الى أعشاشها تنشط صباحاً باحثة عن رزقها تاركة صدى نشيدها الصباحي يتردد في أرجاء الدار كأنه تسبيحةً، وفي الغروب تأوب لتستكين في وكناتها، ناهيةً أغنية المساء، فلا يبقى منها سوى وشوشات عابرة تتناءى بين الحين والحين الى أن يحل الفجر ثانية.
يوم خريفي رائع احتلت الغيوم جزءاً من السماء تخاتل بها الشمس، تحجبها حينا وتنجلي عنها أحايين ... حل المساء منذراً بعاصفة ترابية تلوح في الأفق، وقفت كعادتي تحت شجرة الرمان أتأمل الغروب وعودة العصافير وهي في أوج بحثها عن أعشاشها، تحتلها بكل لهفة، ماهي الا لحظات حتى امتلأت باحة الدار بغبار أصفر ورائحة غير مستساغة ، أعقبه برد ومطر ،انسحبت داخل البيت ... انتهت العاصفة الصفراء ولم أخرج من البيت الا صباح اليوم التالي ، لم توقظني زقزقة العصافير كما اعتدت فخيل لي انها هاجرت من جديد ... خرجتُ لفناء الدار فهالني ما رأيت امتلأت أرجاء الحديقة بالعصافير الميتة ، سألت الكثيرين عن هذه الظاهرة فوجدتهم لا يجيبون ، ولم أجد سوى تفسير علمي هو تفجير غازات سامة !!!
أكملت خاطرتها ونظرت الى ساعتها بعد دقائق سيرن الجرس ويبدأ المهرجان ... لحظات ساد الجو غبار ثقيل وظلمة حالكة عقب انفجار كبير... شيءٌ هائل انهار عليها، أفقدها لحظة التوازن، أدركت أن الحرب نالت منها، سَوّارة من الجحيم لفتها، صرخت بأعلى صوتها...حفنة من التراب خنقت صرختها، أصوات تقترب منها وتبتعد ...كأنها في قبر منسي ...خيل اليها صوت أمها بين الأصوات ... حاولت جذب دفترها لتدون (أنا شهيدة كأبي) لم تستطع، يدها ترزح تحت ثقلٍ لا تقدر على دفعه.