الترنيمة التاسعة

المحبرة

كعادتي عندما أعودعند نهاية الدوام أصل بوابة الحديقة، أرفع قدمي أستطلع وضع البيت، ووضع الأولاد في غيابي من خلال النوافذ الواسعة المطلة على الحديقة، لأرى ان كان الأولاد قد عادوا من مدارسهم...وجدته كعادته لا يبدو منه غير شعره الذي شاب مبكراً...اختفى جسمه خلف الأشجار وصندوق كبير صنعه عند النجار كمنضدة للتصميم الطباعي ... وبسبب ظروف الحرب وشحة الألوان وإفلاس الناس الذين كانوا يهتمون بالأعمال ذات الطابع الفني ألغي المشروع، وبقي جهاز التصميم يستخدمه كمخزن لما تبقى من أدوات الرسم والتصميم معاً.

منذ زمن بعيد لم يمسك بفرشاته، مرت عدة أشهر منذ أن انتهى من آخر لوحةٍ رسمها "بالزفت" على ورقٍ أسمر وجده صدفة قي مخزنه... شحة الألوان والرغبة للرسم تنهشه.

كان يوماً هادئاً على غير العادة، أسدلت الستائر على النوافذ، وهذا يدل على نوم الأولاد بعد عودتهم من المدرسة ... منذ بدء الحرب والمدينة ترزح تحت قصف يومي متواصل ، مما اضطر كثير من الناس الى ترك منازلهم أو بيعها بثمن بخس ، أما نحن فلم نستطع التضحية بالبيت ، عانينا كثيراً في توفير سكنٍ بسيطٍ لنا، واعتدنا عليه، فمواردنا المالية لاتسمح لنا بإيجاد بديل مثله أو أفضل منه.

دخلت الدار كانت الساعة تقارب الخامسة عصراً، تبادلت والأب التحية ، أبلغني أن الأولاد لم يتناولوا غداءهم مفضلين النوم لحين عودتي، جهزت لهم المائدة وأيقظتهم، لم استطع مشاركتهم الطعام، فمزاجي متعكر منذ يوم أمس حينما سقط صاروخ قرب مدرستي، وأباد عائلة أحد طلابي، ولم ينجُ من الموت سواه لتواجده حينها في المدرسة.

ازدحمت الأحداث أمامي، ولم أسمعها من أحد ... ذهبت الى موقع الحدث مع مجموعة من زميلاتي وزملائي المدرسين، صادف أن جيء بجثمان أحد الشهداء من جبهة القتال الى ذات الموقع الذي سقط فيه الصاروخ ليسلموه الى ذويه الذين سبقوه في الرحيل، فاضطر من بقي حيا من أهل الحي الى دفنه، وإقامة الحداد عليه وعلى من استشهد من الحي ... الشارع الذي امتدت البيوت على جانبيه وعلت خضرة الأشجار حدائقه...حول الصاروخ بعض بيوته الى هوة وركام هائلين ...امرأة انتفضت من الركام بطولها الفارع ، نافضة التراب عن جسدها وما أن وصلت لذراعيها حتى صرخت مذعورة، كأنها تذكرت:

ولدي  ...ولدي...

ثم تلفتت يمينا وشمالا باحثة وبصوت أقوى أولادي ، ثم انطلقت مجنونة تحفر الركام بيديها.

****

لماذا لا تنامي إنك منذ يوم أمس لم تغفِ ولم تأكلي، جفلتُ وكأني سُحبت قسراً من عالم آخر، فاجأته بطلبي السفر الى بلد آخر، بلدان كان بعض الآخرين يعتقدون أنها أفضل من بلداننا وبدأ بعض الناس يحاولون بشتى الطرق للسفر اليها، ورغم الرسائل المحبطة التي تصلنا من مقربين الا أن حلم الهجرة والهرب من وطننا بات هاجسا لا يمكن الفكاك منه، فأزلام السلطة والمنتفعين منها يحيطوننا ... قطب جبينه كعادته، وسألني:

 الى أين؟!!!

قلتُ: لا أدري ... الى أي مكان يُحترم فيه الإنسان...

ضحك ساخراً، في وطننا وبكل امتدادنا التاريخي لم نحيا كما يجب، ولا نستطع أن نجاري ونؤمن بما تفرضه علينا السلطة الغاشمة، فكيف إذا رحلنا وبدأنا من الصفر، قد نلاقي من العسف ما نلاقيه الآن.

تركته عائدة الى المطبخ، ثم خرجت الى الحديقة، ثمار النبق الناضج تثير الرغبة في قطفها، تناولت واحدة مسحتها وضعتها في فمي سرعان ما رميتها، عافت نفسي كل أنواع الأكل منذ أمس، جلستُ تحت ظل الشجرة، بكيت بكاءً مراً، ولكنه لم يزل نوبة الكآبة والخوف من أعماقي.

ناداني زوجي كي أعينه في البحث في صندوق التصميم، عن بقايا ألوان متيبسة يحتفظ بها رغم قدمها من باب الاحتياط وتحسبا من انقطاعها وعدم تمكننا من شرائها، نظرت اليه بإشفاق، يمارس هوايته بإصرار رغم كل الظروف.

توسلت بنا ابنتي بنت الثمانية أعوام أن نخرج من الدار الى خارج المنطقة، لقد كان القصف على المنطقة يتواصل الى ما يقارب الساعة الثامنة مساءً، فالمنطقة مستهدفة لوجود مصفى للنفط ومحطة للطاقة الكهربائية.

ركبنا السيارة وحملنا ما وجد من طعام، سرنا على غير هدى في طرقات كثيرة، محاولين قتل الوقت لحين تجاوزت الساعة التاسعة، مرت الساعات ثقيلة متعبة، وكلنا أمل أن يكون وقت القصف قد انتهى وما أن وصلنا باب الدار منهكين حتى دوى المكان بانفجار مرعب هز أركان البيت حتى بدا كأنه زحف الى الأمام ثم عاد لمكانه... صرخت ابنتي أما أخويها فقد أخرسهم الخوف، احتضنتها، هدأتها فالقصف كان على مقربةٍ منا.

سكن الأولاد وناموا من شدة الإعياء حاملين رعبهم معهم ... أما أنا وأبيهم فقد عدنا لتصفيف منضدة التصميم التي أمست مخزنا، فوجد بقايا ألوان وقليل من حبر متيبس في قاع محبرة قديمة (أكل الدهر عليها وشرب) أخذ الأب غنيمته وتركني أتمم لملمة بقية ما تناثر من أشياء...أنجزت مهمتي ثم لحقتُ بأولادي بعد أن أنستني أحداث اليوم أحداث الأمس.

استيقظتُ متأخرةً هذا الصباح، نظرت الى أطفالي بخوف ورهبة من المجهول، لم يزل أبوهم مستيقظاً أمام لوحةٍ جميلة أنجزها ونحن نيام... نهضت اللوحة من بين الركام مجسدةً موضوعاً... ابتسمتُ رغم الألم... خيطٌ رفيع من الأمل في هذه الحياة.

(وانتهت الحرب ... في ذلك اليوم رقص الملايين من الناس في شتى بقاع الأرض، وغنوا، وسكروا، وعربدوا. إلا الذين تذوقوا طعم الحرب. أولئك ظلوا صامتين)....ميخائيل نعيمة.