الترنيمة الحادية عشرة

الزنزانة

(الجزء الأول)

فلا تعجلْ على أحدٍ بظلمٍ     فإن الظلمَ مرتعُه وخيمُ (محمد بن طلحة)

كنا قد تخرجنا معاً صديقتين منذ الثانوية، ولم تخفِ عني شيئاً...

اعتادت (سناء) على تواجده منذ ما يزيد عن شهرٍ، فهو يأتي لموقف الباص مبكراً في نفس الوقت الذي تنتظر هي فيه ... نفس الوجوه تلتقيها كل يوم منذ أن سكنوا الحي... كلما نظرت اليه غير قاصدةٍ، يخالطها شعور غريب، يمتد معها الى الطفولة، ما أن تحاول التذكر حتى يتلاشى، دون أن تتعرف على ماهيته.

لم يحضر هذا الصباح، امتد الفراغ الى داخلها، الشارع لم يعد بهياً... تبدلت أحاسيسها كلياً، أفكار ومشاعر داخلتها الغت ما اعتادت أن تفكر به منذ رحيل والديها.

كم أنت جميلة، أجفلها الصوت، إنه )مازن( ابن جارتها، صبي مرح لم يتجاوز العاشرة، ماراً على دراجته ... اعتادت المزاح معه، ضحكت ونظرت حولها لئلا يكون أحدٌ قد سمعه... لأول مرة تتحرر من تداعيات ما مر بها ... منذ خمس سنوات والأحداث تأبى مفارقتها... قوة قلبت تفكيرها... عجزت عن العودة الى أفكارها السابقة... المكان الخالي شغلها... منعها خجلها خلال الأيام الماضية من القاء نظرة متفحصة عليه... رغبة وفضول استشعرتهما... أملٌ بحضوره ... وصل الباص... تمنت لو تأخر الباص قليلا... ربما سيحضر، صعدت متباطئة، وعيناها على الطريق، حاصرها ضيق، كالذي يحدث في الكوابيس، قضت وقتها في الدائرة ترسم خطوطاً سرعان ما تتشابك كداخلها تماماً، لم تعد صغيرة، تجاوزت الرابعة والعشرين، تحملت المسؤولية بمساعدة عمة أمها... اختها لم تتجاوز الثامنة عشر، وأخيها في الخامسة عشر عاماً. منذ مدة تعينت في الدائرة، الجدران تكاد تنطبق عليها، منذ أن افتقدته ومزاجها لم يعد كما كان، طال النهار عليها لأول مرة، لم تشعر به هكذا فيما مضى، متطلبات الحياة اليومية والدراسية شغلتها ، موت والديها غير كل حياتها، نقلها من غير مقدمات الى تحمل أعباءٍ لم تطرأ على خاطرها مطلقاً، ألغت فتوتها، صارت أماً وأباً، تتالت الأحداث كلمح البصر، خرج أبواها في رحلةٍ الى الشمال ولم يعودا ... حدث لهما حادث، جدها لأبيها لم يتحمل المسؤولية... واساهم كأي غريب بل ألقى اللوم على أبيها، حمله مسؤولية موته لأنه تدخل في أمور كان الأجدى به الابتعاد عنها، ومثله كان رد فعل العم، فما أن انتهت مراسيم الدفن حتى رحلا ولم يعودا بعد أن أفهماها أن موتهما لم يكن سوى حادث مدبر !!!

تحملت صعوبة الحياة بقوة وصلابه، ساعدتها عمة أمها، التي عاشت معهم بعد مقتل زوجها في إحدى المعارك التي تشنها الحكومة بين الحين والآخر في الشمال ... أحبوها وازدادوا تعلقاً بها.

أحب أبوها أمها عندما كانا يدرسان في (جامعة السليمانية) جاء أبوها من الجنوب ليكمل دراسته، لم يوافقوه أهله، تخرج وعمل وتزوجا، أصبح شخصية معروفة مرموقة بعد نجاحه في المحاماة، قصة تكررها أمها باعتزاز وحب، الاّ أن الظروف أجبرته على النزوح، كان عمرها تسع سنوات عندما سكنوا مدينة شمال بغداد، تاركاً كل ما بناه في الشمال.

كم تحن الى تلك المدينة المليئة بالجبال وغابات الجوز واللوز وعيون المياه الباردة في فصل الصيف، أبعدهم عنها وعن خطر لم تعرفه آنذاك... انقطعت صلاته بأهله سوى أخت له في الخارج، واصلت مراسلته.

عادت الى البيت مرهقةً، استقبلتها أختها فقد وصلت قبلها، أما أخيها فلم يعد، على غير عادته ... نظرت الى ساعة الحائط كانت الثالثة عصراً وانتهاء الدوام في الواحدة، تلفنت الى المدرسة لم يجبها أحد!!! اشتد قلقها، سارت باتجاه المدرسة محتارة، رغم مرور ست سنوات على وجودهم في هذا الحي الا أنهم لم يستطيعوا عقد علاقات متينة مع أهله.

خلت الشوارع من المارة، اعتاد الناس الاستقرار في بيوتهم ساعات الظهيرة ... وصلت الى المدرسة، وجدت أبوابها موصدة ماعدا باب وقف فيه حارس المدرسة، فأبلغها أن طلاب الوجبة الأولى انصرفوا، وبدأ دوام الوجبة الثانية... تيبس ريقها... ما أن تحركت حتى ناداها قائلاً:

ست قد يكون أخوك اشترك في مباريات مع الطلاب في الساحة خلف المدرسة، اذهبي الى هناك لعلك تجدينه.

ما أن شاهدته يلعب مع زملائه الكرة ، اغرورقت عيناها بالدموع، لم ينتبه لوجودها فقد استغرقه اللعب ... ما أن انتهى ورآها حتى ركض محمر الوجه، أنبته لعدم اخبارهم بتأخره، اعتذر وقد ازدادت حمرة وجهه، ورث سحنته البيضاء من امهم، احتضنته مستشعرة عاطفة امومة قوية وخوفا من مجهول، لم يعد طفلا صغيرا.

منذ سنتين انقطعت رسائل عمتها، فقد واصلت مراسلتها لهم دون أن يجيبها أحد حتى انقطعت، لم يكن بينهم وبين أقرباء أمها اتصالاً مباشراً، بسبب زواجها من (غريب!)، وبسبب ظروف الحرب المتكررة بين الشمال والجنوب ... أخرجت رسائل عمتها من درج أبيها الذي مازال كما تركه... وقرأتها كلها... شوق لعمتها التي لم ترها خلقته رسائلها، أمسكت القلم ودفتر الرسائل.

انقضى يومها تحت وطأة مشاعرها المضطربة، شتان بين الأمس واليوم ، تقلبت في سريرها، لم ترتح في نومها كالسابق، استيقظت مبكرة، استحمت، امتدت يدها الى علبة مكياج احتفظت بها كذكرى من أمها، مر وقت طويل لم تمعن النظر في ملامحها، استحسنت شكلها فقد ورثت جمال الشمال وملاحة الجنوب ، خرجت من الدار، املٌ يخالجها برؤيته، تمنت لو تجده واقفاً كعادته، امتد الشارع طويلا، اكتسى بندى صباح غُسلت أشجاره فبدت نظيفة لامعة متناغمة مع أحلامها، انتابها شعور من الامتنان لسكناها في حي نظيف كهذا ينتهي بحديقة زاهرة تحتفي بتماثيل لشخصيات تاريخية، كم ودت لو صيغت هذه التماثيل بدقة أكثر مما هي عليها.

ما أن اقتربت من موقف الباص حتى اشتد خفقان قلبها، لم تألف هذه الأحاسيس، كان واقفا مما زاد من خفقان قلبها، حرارة تصاعدت من أحشائها الى كل جسمها ثم تركزت في وجهها، تعثرت، خافت أن يلاحظ أحد ارتباكها، تجنبت النظر اليه، عيناها التقت عينيه رغما عنها، تمنت لو يقف الزمن عند هذه اللحظة، اختلط ضعفها بقوتها، وقفت متماسكة مصلبة كل كيانها كي لا تفضحها مشاعرها... جاء الباص متهادياً وصوت ماكنته يأز...  تباطأت في الصعود آملة أن يتقدمها الا أنه أفسح المجال لتتقدمه، اختارت مقعداً أماميا، جلست، جلس جنبها، استغربت من تصرفه، مد يده اليها بكارت قائلاً:

  • بحثت عنكم كثيراً، أرجو أن لا تفهمي تصرفي خطأ...

تفاجأتْ...  وظلت تنظر في عينيه وكأنها تذكرت شيئاً.

:ـ في العاشرة مساءً عند عودتي من العيادة سأنتظر منك مكالمة...

ترك في يدها الكارت ونزل في الموقف التالي ... تناولت الكارت وقرأت ( الدكتور نوزاد عبد القادر ) ردها الاسم الى أيام الطفولة عندما كانا صغيرين يلعبان في حديقة بيتها المطلة على بساتين الجوز وعين الماء ... كان (نوزاد) صبيا في العاشرة وهي لم تكمل الثامنة عندما انقطع وأبوه عن زيارتهم، وكلما كانت تسأل أباها عن سبب غيابهم يجيبها الظروف هي السبب، وجدت رقم مسكنهم في أوراق والدها، اتصلت عدة مرات بهم ولم يجبها أحد... تركت الموضوع وطواه الزمن .

استعادت هدوءها، استقرت أعماقها، سارعت الى البيت متلهفة بعد انتهاء الدوام، أخويها سبقاها كعادتهما، أخرجت الصور القديمة من درج أبيها وجدت صوراً كثيرة تجمع عائلتيهما، لكن أجملها تلك التي جلس نوزاد جنب أبيها وجلست هي جنب أبيه ... كم تغير عبر هذه السنين! ... لم تعد تقلقها مشاعرها، دب خمول في جسمها، شعور بالطمأنينة لم تألفه، استلقت على فراشها، نامت نوماً عميقاً كل الظهيرة، مازال أمامها ساعتان على الموعد.

بيد مرتجفة أدارت الرقم، انساب صوته هادئاً وعميقاً:

  • ألو

أجابته وخفقان قلبها يدفعها لغلق التلفون، الا أنها خشيت أن توضع في موقف حرج!

  • (سناء) كيف أنتم؟
  • بحثت عنكم كثيراً، وعندما تأكدتُ أنك هي كلمتك.

لم ينتظر جوابها، بل استمر، ...

  • ملامحك معي منذ الطفولة لكنك تغيرتِ كثيراً!!!
  • استعنت بعنوان أخذته من خالكم منذ زمن طويل ... لا ينفع كلامنا عبر الهاتف، بل سأزوركم يوم الجمعة عصراً إذا لم يكن لديكم مانع،!

بصعوبة أجابته: ـ

  • أهلاً وسهلاً، سننتظرك.

يوم تميز بنشاط غير عادي ... طلبت من عمة أمها اعداد الطعام لضيوف سيحلون عليهم، وتولت وأختها وأخيها تنظيف البيت وترتيبه... تستعد لاستقباله وذكريات طفولتها تتتالى كفلم سينمي لا يمكن نسيانه... كان هو الجزء المخبوء من هذه الذاكرة.

لم تكن لها علاقات اجتماعية، بل اقتصرت على بعض زميلاتها من أيام الدراسة، ولم تكن لهم علاقات مع أقربائها سوى خالها الذي كانت زيارته لهم نادرة، فقد كان يجلب حصتهم من وارد البستان الذي ورثوه من امهم، وبقي هو المصدر الأساسي لمعيشتهم فترة طويلة ... أحست عمتها بتغيرها فسألتها عما بها؟

 فأبلغتها بزيارة (نوزاد) لهم، استغربت العمة ...أبعد هذه السنوات تذكرهم (نوزاد)؟!

نهار دافئ غير رتابة حياتهم وبدد شيئاً من الحزن الذي رافقهم، ما أن حل المساء حتى أنير الدار بالثريات التي هُجرتْ ولم تشتعل منذ رحيل والديها.

تكررت زيارات (نوزاد)، فأدخلها عالما جديداً، خفف كثيرا من أحزانها، لم تعد هذه اللقاءات تحقق ما خالجهم من حب وشوق.

(يتبع)