الفصل الثالث

أيقظتها طرقات قوية على الباب انتزعتها من نومها، وصوت ينادي:

بيت أبو سالم (اسم الأبن الأكبر للجد)؟!

 أجابته الجدة والكلمات تتعثر على شفتيها:

نعم ماذا تريد؟

أنا أبو هاني

أهلاً وسهلاً... تفضل

فتحت (الجدة) الباب، أفسحت له الطريق الى الداخل وأعدت له شايا وطعاما... استيقظ الجميع واستقبلوا (أبا هاني) الذي يروه لأول مرة... وصل على العنوان الذي تركوه له عند جارهم العجوز... أخذ أبو هاني سيارته ليملأها وقوداً... عاد بعد أكثر من خمس ساعاتٍ متعباً، حصل عليه من السوق السوداء بثمن مرتفع... أعدت (لمى) والجدة الإفطار وهي فرحة متمنية الرجوع معهم، لكن السيارة لا تتسع لهم جميعاً، ودعتهم الجارة أم البنتين وهي تعدهم بذبح الخروف بعد انتهاء الحرب.

تجمعت العائلة مساءً قرب المدفأة، فُرشت الغرفة ببساط محلي يحاك باليد، فرش تحته حصير من النايلون لمنع الرطوبة عنه، اتخذه الأطفال مكانا يخبؤون تحته ألعابهم الورقية، عُلقت لوحة لمنظر طبيعي أمام الباب، أما الجدار المقابل فقد عُلقت صورة لولي من أولياء الله شاعت صوره بين الناس، احتوت الغرفة على قنفات وبوفيه قديم ملأتها الجدة بأواني وتحفيات جمعتها واحتفظت بها منذ أكثر من أربعين عاماً، وبينما تتجاذب الجدة و(لمى) الحديث دُفعت باب حجرة الضيوف بقوة... دخلت امرأة في الخمسين من العمر، معتدلة القامة، عرفتها الجدة أنها جارة قديمة لهم، تعزها كأخت لها، جلست الوافدة بعد أن قبلت الجميع صغاراً وكباراً، واذا بها تنتفض واقفةً مقلدةً شخصاً بعد أن سألها الجد عنه... طال الحديث وتشعب، كلها انصبت على الحرب وما سببته وتسببه من ويلات وكوارث... صراخ وعويل مزق صمت الشارع، قادماً من الشارع المحاذي لشارعهم خرج الجميع لاستطلاع الأمر... فاذا جنازتان محمولتان على الأكتاف أحداهما لـ(أبي مخلف) الذي استلف نقوداً ليأتي بجثمان ولده(مخلف) فأصابتهما شظية من صاروخ أُسقط على المنطقة ... قتيل يصطحب قتيل ... قصص شتى وأحداث أغرب من الخيال، وحدتها النهاية اشترك كل أهل الحي بتشييع الشهيدين، بعد انتهاء التشييع عادت (أم مخلد) معهم الى دار (الجد).

(أم مخلد) أتعبتها المحن، فبدت أكبر من عمرها كثيراً، أجبرتها الظروف على أن تصبح بائعة غير متخصصة، بعد وفاة زوجها، وأسر ابنها مخلد، وانقطاع مساعدة ابنتها المتزوجة من كويتي لأهلها أثٌر على حالتهم المعاشية،  مما اضطر أمها لبيع سمك الزوري تارة ومرة تصنع لفائف حب تبيعها لأطفال المحلة أو أنواع من الحلويات الرخيصة... ومما زاد من أعبائها تواجد ابنتها الكبرى وأطفالها الأربعة بعد أسر زوجها، ولكن أكثر شيءٍ آلمها ونغص حياتها وأساء اليها إشاعة خبر تعاون ابنها الأسير مع الأعداء في ايران ضد اخوانه الأسرى مثله، مما جعل عائلته موضع نفور من الناس!

علمت أم مخلد بحاجتهم الى الماء، بادرت وأرسلت ماءً أوصلته ابنتها وأطفالها وصديقتها...  ابنة أم مخلد وصديقتها بعمر (لمى) مودة والفة نشأت بينهم، استمر الحال ثلاثة أيام، انقطعت ابنة أم مخلد عن جلب الماء لهم، لم يكن أمام (لمى) سوى الذهاب الى بيت أم مخلد، ترددت في بادئ الأمر لكنها لم تجد مفرا، اصطحبت ابنتها الصبية، حملتا الملابس لغسلها، وجدت ابنة أم مخلد في الدار، رحبت بها واعتذرت منها لعدم استطاعتها نقل الماء بمفردها، لأن صديقتها وجارتها امتنعت عن المجيء اليهم ومساعدتها بنقل الماء، فقد اطلق سراح مخلد منذ فترة وكان مرتبطا بصديقتها بعد قصة حب بها قبل أسره ، لكنه قبل ثلاثة أيام تنكر لها ونكث بوعده، رافضا الزواج منها، بالرغم من محاولتها استرجاع ما بينهما من مودة، لكنها لم تستطع... لم يدم نقل الماء من بيت أم مخلد طويلا، إذ سرعان ما انقطع عنهم!

اعتادت نسوة الحي تقديم المساعدة لـ(لمى) لاعتقادهن أن نساء العاصمة أقل قدرة على تحمل مشاق الحياة منهن لذا وجب عليهن حسن الضيافة والمساعدة، فكن يتآلفن معها بسرعة لم تألفها في مدينتها.

صار لحنفية الماء عالماً خاصاً بنسوة المنطقة، كل ما يدور في السر والعلن ينساب من أفواههن مع قطرات الماء البطيئة ببطءٍ ووجل، حتى أسرارهن لم تعد خاصة، أما هي فما زال حذر العاصمة يغلف علاقاتها، ففي العاصمة ينتشر التجسس وكتابة التقارير ورفعها لمن هم أعلى، ولا تدري إن كانوا في المدن الأخرى هناك من يرفع تقارير سرية أم هم أفضل حالاً!

يتشعبن في أحاديثهن ولا يبقى شيء محرم لا يخضن بذكره سواء ما يتعلق بالسلطة أو مشاكلهم الحياتية وماهم فيه من قلة الخدمات والأرزاق.

عضت لسانها خوف أن تتسرب منها كلمة تثير الشكوك وتنقلب حياتها الى جحيم كما حدث لزميلتها في المدرسة، التي بالرغم من انتمائها للحزب الحاكم هي وأهلها الا أنها عوقبت بسبب وشاية من زميلة لها.

روايات وأحاديث، تدور في السر عن فشل الجيش وهروبه من المعركة، وتلميحات عن أماكن تواجد الماء... بيت الحجي (أبو سلمان) من البيوت المعروفة بترفها، وهو أمر نادر في هذه المدينة القائمة على بحر من البترول، يفصل بينه وبين بيت الجد شارع فرعي يؤدي الى الشارع الرئيسي، تفصلهما فسحة جانبية واسعة من الأرض، كان من المقرر أن يقام عليها حديقة تابعة للحي... لم ينفذ من المشروع سوى إحاطتها بسياج سلكي بائس، فأصبحت مكباً للنفايات.

بُني دار الحجي على أرض مرتفعة عن الشارع، على مسافة غير بعيدة أقيم سوق حديث، دكان الحجي فيه... عُبد الشارع الرئيسي فيه دون تأسيس شبكة تصريف لمياه الأمطار والمجاري، أما الطرق الداخلية فقد أهمل تبليطها، مما جعل الطرقات تغرق بمياه الأمطار والوحول المتجمعة من السواقي غير النظامية التي اعتاد الأهالي حفرها أمام بيوتهم لتصريف المياه القذرة.

عدد من النسوة اخترن جلب الماء من شاطئ النهر رغم بعده وصعوبة الطريق اليه، فهن وصغارهن مشغولات بهذا الهم ليل نهار... معظم الشباب سيقوا الى جبهات القتال الا من استطاع التهرب منهم، الشيوخ انشغلوا بتتبع أنباء الحرب من خلال ما تبثه الإذاعات.

لم يكن في بيت الجد سوى مذياع كهربائي كبير تعطل بفعل انقطاع التيار الكهربائي، مما اضطر العم الى استعارة مذياع صغير مكسور من صديقه في العسكرية (عبد الله) اصلحه (جابر ...زوج لمى) و(الجد) بصعوبة بالغة، كان حطام مذياعٍ، ربطوه على خشبة مستطيلة وقوية بسلك وشدوه بقوة كي لا يتحرك ويخرب ثانية وتفوتهم مستجدات الحرب ثم أوصلوه ببطارية. 

أمام قصر الحجي حنفية ماء نصبها أولاد الحجي كي يملأ الجيران حاجتهم من الماء لأن الماء بقي جاريا عندهم.

من أعماق عتمة الحرب ومآسيها انطلقت زغاريد وموسيقى وأغاني شعبية من أحد بيوت الحي، نُسيت منذ وقت طويل، هرعت النسوة وأطفالهن كعادتهن عند سماع ضجيج وأصواتٍ عالية، عُدن بخبر زواج صبيح بابنة عمه التي أحبها منذ الطفولة، وحالت الحربين من إتمام الزواج، فأصر (صبيح) على اتمامه في إجازته السريعة هذه، ونزولاً عند رغبته أُقيم الفرح تحت زخات المطر وأصوات الانفجارات المدغمة بالهلاهيل.

زوجة الحجي شخصية قوية ومؤثرة في حياة الحي، بمساعدة أبنائها وبناتها أدارت تجارة زوجها بعد وفاته، تُعين من يحتاجها ولهذا كان أهل الحي يحبونهم ويثقون بهم ... صداقة خاصة ربطت (لمى) ببنات الحجي، ربما بسبب تطلعهن بشوق الى العاصمة، ساعدنها في ملء وتوصيل الماء، لكن انشغالهن بوفاة خالتهن منعهن من مواصلة المساعدة، زودنها بعربة دفع المواد الغذائية لتنقل عليها براميل الماء، تسير في شوارع مغمورة بالوحل والسيانة، لم تكن للعربة مساند جانبية لذا كانت تلاقي صعوبة بالغة في المحافظة على توازن العربة وبالتالي المحافظة على الماء... ما زالت الغارات الجوية تواصل قصف المدينة غير آبهةٍ بمن تحتها... فرق شاسعٌ بين مدينة تُتخذ مقراً للحكم وأخرى تغفو في الإهمال والنسيان... كلما اجتمعت وبنات الحجي يسألونها عن مدينتها ... شوارعها، بيوتها ناسها أسواقها، لا يتركن شيئاً دون سؤال، من شوقهن حرضن فيها حنيناً لأيامها الدافئة، أيام لاهم لها فيها سوى الدراسة ولا طموح لديها أقوى من طموح التفوق، مكانها المفضل للدراسة غرفة أمها الجميلة المطلة على الحديقة على أجمل شارع في الحي، انطلقت أحلام صباها هناك، بين رائحة أمها وهي تفترش سريرها أمام النافذة ورائحة المطر المتصاعد من الشارع والحديقة، تنفرد وحدها في تلك الغرفة الواقعة في الطابق الثاني، بعد أن تستيقظ أمها وتنزل الى الطابق الأول لتحضير الطعام، شارع ممتد أمامها مرصوص بالأشجار العالية، في الأيام الممطرة يمتلأ الشارع بالماء المتساقط متلألئً تحت إنارة الشارع، وما أن ينتهي المطر حتى تكون مياه الأمطار قد تسربت الى المجاري تاركة الشارع وأشجاره نظيفاً زاهياً زاده المطر بهاءً وروعةً... سألتها (أناهيد) وسطى بنات الحجي وأقربهن اليها، إن كانت ستعود لزيارتهم بعد انتهاء الحرب وعودتها لمدينتها !!! ... ودت لو تجيبها بـ ـ لا ـ لكن الخجل منعها... أبلغتها (أناهيد) وقد اصطبغ وجهها بحمرة خفيفة عن رغبتها بالزواج من شاب من العاصمة ضحكن، وإذا بصفارة الإنذار تقطع أمنيتها، انفجار أفزعهن تركن خزان الماء ينساب منه الماء بعد أن قضين وقتاً طويلا في ملئه، اختبأن في سد جدار الحديقة، لم يكن أمامهن متسعا للهرب، في هذا الجو آثرت (فوزية) البقاء في مكانها أمام حنفية الماء غير آبهة بالغارات التي تتوالى، المرأة المكتنزة اللطيفة الملامح السمراء الحمراء الوجنتين رغم فقرها وسوء التغذية، حادة اللسان استأسدت مستغلة الغارات للسيطرة على حنفية الماء مانعة النسوة من الاقتراب ريثما تنتهي من ملئ كل أوانيها... رحلت معظم النسوة باحثات عن أماكن أخرى للماء، مشادة كلامية بين (لمى) و(فوزية)، اضطرت الى انتظارها وقتاً طويلاً، انطلقت (فوزية)تحدثها عن حياتها الخاصة بالرغم من الجفوة بينهما بسبب الماء ... فهي تُحب أخويها ولهما مكانة أثيرة في قلبها لشهامتهما ولشجاعتهما... فهما لا يتوانيا عن مد يد العون لمن يحتاجهما، سانداها عندما تركها زوجها بعد ثلاثة أشهر من زواجها، حاملة بابنتها البكر، ولم يعد الا بعد خمس سنوات محملا بهدايا من العاصمة، فقد اشتغل وتزوج ثانية، وانجبت زوجته الثانية طفلين، وعاد اليها بعد هذه السنين مصالحا ولهذا تقبلت منه وعذرته لأن رجوعه لها دليل على حبه، ومنذ ذلك الوقت وهي تذهب لزيارته وزيارة ضرتها في الأعياد وهي سعيدة جدا بهذه الزيارات.

ألم حاد في قدمي (لمى) التشققات البسيطة التي ظهرت تقرحت، ولم يعد لبس نعل أو حذاء يمنع تسرب ماء السيانة الى القدم، بل أحياناً تصل الأوحال لمنتصف الساق.

منذ وصولهم أي ما يقرب الشهر لم يتحمموا، الا مرة واحدة وبقيت هي بلا استحمام، فبرودة الجو وتواصل المطر المتقطع وجمع الماء ونقله وتخزينه لعدد كبير صعوبة بالغة لم تعد تقدر عليها الا بشق الأنفس.

     تباطأت الأيام والصواريخ والطائرات المنطلقة من البحر لا تكف عن ضرب أهدافاً استراتيجية... استهدفت محطات الكهرباء وهدمت الجسور ومخازن المؤن، شبت حرائق يستدل من ألوان الدخان وكثافته على نوع المواد المدمرة... أُبيحت المخازن للسراق والمحرومين، ومنهم أخوا فوزية اللذان حملا كيسي عدس ورز كبيرين لأهلهما ولأختهم فوزية وأطفالها الخمسة.

الجو تغير قليلا شباط على وشك الانتهاء، فهو دافئ في النهارات المشمسة وشديد البرودة ليلاً، لا يمكن الخروج الى الباحات الخارجية أثناء الغارات ولا يمكن البقاء تحت سقوف الدور لأنها مشيدة من الشيلمان والطابوق ومفروشة بطبقة ترابية تكفي لمنع تسرب ماء المطر، ولم يطرأ في ذهن مشيديها أنها ستقع بين فكي حربين ضروسين تطحن الحجر والبشر.

مر صاروخ انطلق من بحر الخليج ليعبر البصرة وميسان والوسط وصولاً الى العاصمة... الأطفال في عز نومهم اهتزت الدار واصطفقت الأبواب انتهك الصوت سكون الليل، مالت الأشجار الموجودة في الحديقة بقوة باتجاه مساره، تقرفص الأطفال تحت أغطيتهم لاصقين وجوههم بالأرض.

أكثر من شهر مر على اندلاع الحرب الثانية، لم يتمكنوا من العودة لديارهم... انقطعت كل وسائل الاتصال بين المدن، غلا الوقود غلاءً فاحشاً... أدركت (لمى) أنها مجبرةٌ على البقاء، ذهبت كعادتها الى بيت الحجي لجلب الماء... وجدت بنات الحجي متحلقات في طارمة الدار حول اختهن المتزوجة، جاءت تواً لزيارتهن، زوجة أخيهن الكبير تغسل الخضار المملحة وتضعها في برميل ثانٍ وضع فيه خلا، تصنيع الطرشي وتسويقه وبيعه جزءٌ من تجارتهم... وقفت (أماني) وسط أخواتها تتسامر معهن واضعة مذياعاً صغيراً على أُذنها تنساب منه أغنية عبد الحليم موعود..

(حُكُم) أكبر بنات الحجي في الثلاثين من العمر، ما زالت ترتدي السواد، خُطبت نزولا لرغبة أهلها وإرضاءً لأبيها، ما زالت ترتدي ثياب الحداد على خطيبها، تتحدث عنه ونبرة الحزن والندم تُشف بين الكلمات، لم تشعر بحبها له الاَّ بعد موته، مسحوقاً بشاحنة كان يصلحها انقلبت عليه وقتلته، ومن حينها أحست بفراغ رهيب في حياتها، ولم تعد تطيق التفكير بغيره.  

(أناهيد) و(نعمت) شابتان متقاربتان في العمر الأولى في السابعة عشر عاماً سمراء ذات شعر طويل طموحة في دراستها و(نعمت) تكبرها بعامين كسولة استطاعت أختها اللحاق بها في الدراسة فأصبحتا في فصل واحد، أختهن (كواكب) صبية تقارب الرابعة عشر جميلة هادئة أصابها تخلف عقلي منذ الحرب السابقة لم تُعرف أسبابه، بل قسم من الأطباء عزوه الى الرعب الذي أصابها خلال الحرب، أما أماني فلم تتجاوز الخامسة والعشرين طويلة ممتلئة بارعة الجمال، ولدها في الثانية من العمر، فرشن له خالاته حصيراً على الأرض وأحاطوه بلعب يتسلى بها، بين الحين والآخر يتعالى صوته فرحاً... كان الحديث لـ(حكم) التي انصب اهتمامها على ما تسمعه من نُبوءات حول الحرب والسياسة، توقعات تعبر عن أمنيات الناس بتخليصهم وخلاص شبابهم، تتفق أحياناً مع الواقع والمنطق وفي أغلب الأحيان تغايره... في هذا الجو المشحون بالحديث عن المعقول واللا معقول والممكن والمحتمل والحقيقة والتمني...  وإذا بصبي يأتي راكضاً ويصرخ بوجه أماني السارحة مع اغنية عبد الحليم:

جابوه...

الجميع سألنه معاً

من؟!

يتبع