حال وصولي منفياً إلى (مدينة الفاو) على رأس الخليج العربي وجدت في (النخلة الطريدة!) رفيقاً لي في غربتي...استأنس لصمتها في وحدتها، واغفو لعزف الريح على سعفها، اتطلع إلى الأفق الفسيح الحُرِّ المُمتَدِّ إلى مديات الخليج فيما وراءها، اصغي إلى أنينها من فرط الوجع، اتحسس رسيس الحمى في جسدها، وهي تعجز عن اقتلاع اللوح الخشبي المتآكل الذي ينتهش جذعها، اقرأ بقايا الحروف الحائلة اللون التي كتبت بخط ركيك على اللوح الخشبي ذو الرأس المدبب كالسهم (الحدود العراقية!) ...
ابتسم مع نفسي متسائلاً عن مغزى عبث أهواء الريح باتجاه اللوح الخشبي...تارة يكون السهم نحو الشرق، وأخرى نحو الغرب، وغالباً باتجاه السماء!
رغم انتباذها قطيع النخل خلفها، ألاّ أنها لم تكف عن سخائها، فعذوقها مُثقَلةٌ بالرطب، وسعفها نَضِر ٌ، وفيؤها رغم شِحَتِه ظليل...
استكنت لحنانها وتآلفت معها، ورحت استقصي تقلبات الأزمنة من خفق الريح بخوص سعفها، واستيطان غبار الشمس في فروة رأسها ، التجئُ كل يوم إليها للتَفَرُّدِ والاعتكاف في رحم عَبَقِها، ارسمها مرة عاريةً، وثانية مصلوباً على جذعها الفِكْرَ، وأخرى اركن أدواتي (وديعة) عند جذعها للذهاب إلى آخر شاطئٍ لشط العرب، عند التماهي بمياه الخليج العربي، اجعل من شفاه النهر الطينية الطرية لوحةً، افرِغُ عليها يومياتي التي اخشى من البَوحِ بها، فامضي النهار كل يوم جمعة انْحَتُ على اللوح الطيني لجرف (الخليج العربي)، وعند المساء اجلس منتظراً (المَدَّ) لأطمئن أن موجة (المَدِّ) مسحت أسرار يومي!
ذات مساء أسندت رأسي إلى جذعها الحائل اللون من فرط هجران الأحبة، فأخذتني الغفوة تحتها وانتابني شعور بأن روحي عالقة بها، وسرت قشعريرة وحمى في جسدي عندما عصفت بها ريح السموم، وامتلأ صدري بالبهجة حالما تَضَوَّعَ عنها رحيق الطَلْعِ الزكي، أو كلما نَضُج الرَطَبُ... فاستسلمت لعذب حديثها، اسمع حكايتها:
قطعوا رؤوس نصف أهلي في بلاد النهرين، بعد أن كنت مقدسة عند اسلافهم...تكالب علينا الطغاة والبغاة والغزاة، صرنا غرباء في أرضنا، بعد أن كانت هذه الأرض أول تكويننا ونشأتنا ونحن آلهتها المُقَدَسون من عصر فجر الحضارة في (أريدو) قبل ستة آلاف سنة...
واليوم...
لم تعد تحمينا من الموت (قَصْلاً!) أو ظمَأً، لا شرائع نازلة من السماء ولا قوانين شائعة في الأرض...
بالأمس...
قبل ما يقرب من أربعة آلاف سنة سَنَّ لنا (حمورابي) في مسلته سبعة قوانين تحمينا...
إذ فُرِضَت غرامات كبيرة على:
(من يقطع نخلة، أو يهمل رعايتها، أو يتأخر في تلقيحها، أو يتسبب بِقِلَّةِ عطائها، أو يُفسد رَطَبَها، أو يمنع سَقْيَها، أو يَتْلِفُ أرضها)!
وتأوهت النخلة بصوت متحشرج سرى في بدني وهي تهمس لي بقول (أبو العلاء المعري):
كَلِفنا بالعراق ونحن شرخٌ فلم نلمم به إلاّ كهولا
شربنا ماء دجلة خير ماء وزرنا أشرف الشجر النخيلا!
عندما أتتني أخبار نَفيي من جديد، وفُرِضَ علي فراق حبيبتي (النخلة الطريدة!) ...كتبت على ورقة انتزعتها من صفحات سيرتي، ودَسستها بين رحيق طَلعِها وجدائل قلبها...كي تعيش معها ولا تنقطع عنها حتى يأتيها الأجل الباغي ليقْطَعُ رأسها...
ودَوَّنتها في ذاكرة الأيام بعنوان:
نَخلةٌ طَريدةٌ على الخليجِ العربي!
لا تَعرِفُ من أيِّ فَسيلٍ جاءَت...
أو مِن أيةِ "فُصْمَّة"(1) ...
رُبَّ رياحٍ حَمَلتها للغربةِ قَسراً...
وتَهاوَتْ من عصفِ الوِدِّ إلى وَجَناتِ التُربةِ...
عَزَّ عَليها الهَجْرُ...
تَناخَتْ...
غارَتْ في أدَمِ الأرضِ...
وأمْسَتْ فاتنةً في بَصراءِ النَخْلِ...
طَريدَة...
عِندَ شواطئِ "رأسِ البيشةِ"(2)!
****
كانَتْ في عُمُرِ هلال العيدِ تُلَوِّحُ جَذَلا لحقولِ الحنّاءِ...
مَرَتْ بجوارِ جَديلتها ثُلَّةُ فتيانٍ تَبحثُ عن سرِ الكَونِ...
سَمِعَتْ "إنكي دو"(3) يَروي حُلُماً:
الناسُ جيوشٌ من صلصالٍ رَخوٍ تَتَفَطَرُ...
تَتَدافعُ...
تَهوي في الطُرُقاتِ رُكاماً...
يأتيها قَمَرٌ من نارٍ...
يَتَدَحرَجُ من بينَ ضلوعِ الغَيْمِ...
يَلْهَبُها...
تَتَصَلَبُ...
تَغدو ثيراناً من حَجَرٍ جامح...
تَتَنافرُ في إيوانِ الحُصنِ الخَزَفيِّ المَحروسِ بِجُنْدٍ من رملِ الصحراءِ...
تَمحو حَقلَ الألغامِ...
وجدرانَ الحُصنِ الخَزَفيِّ...
وأصنامَ السُلطةِ الرَمليةِ!
****
البَغيُّ تُرَوِّضُ "إنكي دو" كَي يَنكُثَ بالعهدِ...
وجيوشُ المُحْتَّلِ تُقَوِّضُ وَطني كي يَفتُكَ فينا أُمَماً...
مِنْ أرذَلِ عُمُرٍ لِرَضيعِ المَهدِ!
****
في عسَسَ الَليلِ المُثْقَلِ بالمحنةِ...
سِيقَ "الحَلاجَ" (4) إلى جذعِ النَخلةِ مَقصوباً...
تَحرِثُ ساقيهِ المَغلولةِ دَرباً للوَجدِ المُتَماهي بَينَ الخالقِ والمخلوقِ...
لَمْ يألَفَهُ الحُكماءُ...
وَلا..
وعّاظُ الخُلفاءِ المبكومينَ بِسِحتِ المالِ المَسْلوبِ!
****
ما اقْتَدَرَ "المُقتَدِرُ" العباسيُّ على وَئدِ الفِكرَةِ...
فاغتالَ الحلاجَ!
ما اقْتَدَرَ "المُقتَدِرُ" العباسيُّ على قَطعِ الخَطوَةِ...
فاجْتَّزَ الأطرافَ المَعْلولةَ من جسدِ الحلاجِ!
ما اقْتَدَرَ "المُقتَدِرُ" العباسيُّ على خَلْقِ الفُرقَةِ بَينَ الواجِدِ والموجودِ...
فاختارَ الفِتنةَ بالسياراتِ المَلغومةِ في أسواقِ "الحِلَّةِ" (5)!
ما اقْتَدَرَ "المُقتَدِرُ" العباسيُّ على كَمِّ الأفواهَ بِسَيْفِه...
فاسْتَقْدَمَ أفواهَ جحيمٍ ومَنابِرَ سوءٍ!
ما اقْتَدَرَ "المُقتَدِرُ" العباسيُّ على أن يَزرعَ وَرْدَة...
فاجْتَثَّ جميعَ النَخلِ بذاكرةِ النَهرين!
****
شَعَرَتْ كُلُّ نَخيلِ الدُنيا بالوَجَعِ المُتفاقِمِ في روحِ النَخْلَةِ...
تَحْتَضِنُ الجسدَ الهالكَ...
والنَفسَ التَوّاقةَ للزُهْدِ بدارِ الغُربَةِ!
سَعْياً للوطنِ الأزَليِّ النائي عن طُغيانِ القَسوةِ والزَيفِ...
يَطلُبُ قَتلاً في وَضَحِ العَقلِ...
لِئَلاّ يَخسَرَ سُلطان الأبديةِ!
يَحْنو بالجسدِ النازفِ...
فَوقَ خُشوعِ السَعفِ...
دفئًا لرفيفِ الجذعِ الرعاش!
****
كانت نَخلَتُنا تَتَسامرُ تِلكَ الليلةَ والبدرِ المُتأرجِحِ خَلْفَ الغَيْمِ...
مَسَّتْ هامَتَها لَفْحَةُ بارودٍ ساخن...
جَفَلَتْ...
مَدَّتْ قامَتَها...
نَظَرَتْ لخليجٍ ساكِن...مُضْطَرِمِ الأعماقِ...
لَمَحَتْ "كوكس" (6) يَتَلَفَعُ "بِشْتاً" (7) عربياً وعِقالاً...
يَحمِلُ "خِرْجاً" (8) من صوفٍ داكِن...
تَتَراءى مِنهُ ملامِحَ مَلِكٍ مَذعورٍ مُسْتَورَد...
ووثيقةَ بيعٍ للمُنتَفعينَ!
فَكَّتْ نَخلتُنا فَروَتها ثاغِبَةً...
حَجَبَتْ رؤيتَها كِثبانُ الملحِ الزاحفِ نحو الأحداقِ...
هُجِرَتْ...
ما عادَتْ تَغمِرُها رائحةُ الحِنّاءِ...
تَفاقَمَ فيها الغَيظُ...
حَطَّتْ قُبَّرَةٌ فوقَ حُبوبِ الطّلعِ...
ناحَتْ..
تُنْبِؤها بدموعِ النِسوانِ المنكوبةِ بـ “الثورة"(9)...
يَحمِلْنَّ ذراعَ شهيدٍ بضلوعِ شهيدٍ آخر...
والقبرُ المُتشاسعُ ما عاد يُصدِقُ أحلامَ الدفّانينَ المُنتَفخين!
****
كُنتُ أُطَهِرُ كَفي بالطينِ الحُرِّ الدافئِ من تَحتِ شُجيراتِ الحِنّاءِ...
أُسائلُ نفسي عن سِرِ النَخْلة "الزعلانة"...
بينَ سُكونِ "الشَطِّ" المذهولِ لهولِ الفولاذِ الدمويّ الخائضِ بِبُحورِ دِمانا...
ورفيفَ نخيلِ الوطنِ المُتَعانِقِ من أطرافِ "الفاوِ"(10) إلى ناعورِ "حديثة" (11) ...
مَسَّتْ وَجهيَّ خَفْقَةُ ماءٍ باردةٍ من خورِ البَصرةِ...
تَحملُني لبساتينِ الكَرْمِ بأطراف "كَلالة"! (12)
فصمة: نواة التمرة بلغة أهل جنوب العراق.
رأس البيشة: شاطئ العراق المطل على الخليج العربي.
انكي دو: صديق جلجامش.
الحلاج: هو الحسين بن منصور الحلاج. صلبه المقتدر العباسي على جذع نخلة لأنه معارض!
الحلة : مدينة عراقية عرفت بالتنوير الثقافي.
كوكس: "بيرسي كوكس" السياسي البريطاني الذي وضع أسس تقسيم المنطقة وشرذمة شعوبها منذ نهاية القرن التاسع عشرة، والحاكم الفعلي للعراق بعد تأسيس (الدولة العراقية) عام 1921.
البشت: العباءة الرجالية.
الخرج: الكيس الصوفي الذي توضع فيه الأشياء لتحميلها على ظهر الدواب.
الثورة: مدينة البؤساء والمبدعين في رصافة بغداد.
الفاو: ميناء العراق الرئيسي على الخليج العربي.
حديثة: مدينة عراقية على أعالي نهر الفرات عرف أهلها بالسخاء والثبات.
كلالة: قرية عراقية كوردستانية عرف أهلها بمقارعة الاستبداد.