حكاية ونَص:

أبحثُ عن "نوزاد"!

في اليوم الأول لمعرض الكتاب الدولي، كنت اتجول في أجنحة المعرض عندما وجدت نفسي إزاء منصة مكتبة مغلقة!

سألت رجلاً منهمكاً بصف الكتب في منصة (مكتبة النهضة)، فأجابني بلهجة بغدادية مفخمة:

الطريق شائك عليهم، وسيصلون غداً إن شاء الله عبر إيران!

لم اتمكن من تجاوز طوفان الشوق في ذاكرتي الذي غمر نفسي بعد يباب سنوات طويلة وانا اقرأ لوحة صغيرة على منصة عرض مجاورة مغلقة... (مكتبة كاوه)!

عندما تضيق بك السبل يمكنك اللجوء إلى (مدينة السليمانية) والسؤال عن (مكتبة كاوه) فتصل إلى أبي هناك...إنهم يعرفونك جيداً...وستكون في ملاذ آمن وعند أناس طيبين!

تلك كانت كلمات صديقي (نوزاد) التي كررها غير مرة...منذ اللقاء الأول لنا في سبعينيات القرن الماضي، ونحن نجلس حول مائدة الغداء في بيتي!

(نوزاد) الشاب المرح النشيط الذي باغتني بدخوله عليَّ ذات يوم، بِزَيِّهِ الكوردي الأنيق، عندما كنت ادَرِّس الطلابَ في مرسم المدرسة، مما أثار دهشة الطلاب القرويين الجنوبيين الذين لم يسبق لهم أن شاهدوا ذلك الزَيّ، فاحتفوا به دون تحفظ!

كان استغرابي أشد من طلابي لدخول شاب لا اعرفه عليهم في الفصل الدراسي.

لكن (نوزاد) كان من اللطف والطرافة أن قدم نفسه للطلاب قائلاً:

جئت أتعلم فن الرسم!

ضج المرسم بالضحك لفارق العمر بينه وبين الطلاب الفتيان...

تلاشت بين (نوزاد) والطلاب وبيني جدران الوجل والشك وشاعت روح الثقة والممازحة الصبيانية... خاصة بعد أن علموا أنه المهندس الجديد المنقول إلى إدارة الاتصالات في المبنى الملاصق للمدرسة!

لم تستغرق العلاقة بيني وبين (نوزاد) أكثر من شهرين!

لكنها كانت عميقة وراسخة وخصبة، لأن الصداقة لا تحسب بطول الزمن، بل بصدق وعمق المواقف، والوفاء في أوقات الشدة... بحيث كنا قد أبحنا لبعضن ا البعض مكنونات فكرنا ومشاعرنا دون تحفظ، منذ لقاءاتنا الأولى...

بل وأزحنا الوجل والخجل عن صور أحلامنا الشبابية، وتيارات افكارنا المشاكسة المختلفة مع الآخرين... وصرنا نلتقي كل يوم، فتَمُرُّ علينا الساعات مفعمة بالبهجة والوِدِّ، رغم قسوة تلك المرحلة التي فُتِحَتْ فيها أبواب (قصر النهاية) لمن يقول (لا) للاستبداد، وكان (نوزاد) بحق علامة فارقة في حياتي!

وأثناء رحلة هروبنا مُطارَدَين من (ميسان) إلى (البصرة)، لم يتوقف (نوزاد) عن دعوتي للجوء إلى أهله في (السليمانية) إذا فرقتنا المقادير أثناء رحلة الهروب!

عندما وقعا في الكمين الذي نصبه لنا رجال أمن السلطة في (محطة قطار المعقل) بالبصرة حيث كنا قاصدين كوردستان، تفرق شملنا!

انا سقط تحت عجلات القطار ونقلت فاقد الوعي إلى المستشفى، و(نوزاد) اختفى وانقطعت أخباره عني إلى اليوم!

في اليوم التالي ذهبت مبكراً إلى معرض الكتاب الدولي قاصداً (مكتبة كاوه) ...كان في المنصة رجلاً شائباً في الأربعين من العمر يرتب صفوف الكتب على الرفوف دونما اكتراث لما حوله...

ألقيت عليه التحية، رد التحية علي بحرارة دون أن يلتفت إلي لكنه استدار عندما وجد ظلي مازال يُخَيِّمُ عليه، واستقام في وقفته بمواجهتي متسائلاً بصمت واستغراب عما ابتغيه!

كنت اتفحص ملامح الرجل المُستعارة من سيماء (نوزاد)...كانت البطاقة المعلقة على صدر الرجل الكُتُبي تحمل اسم (آزاد مكرم) ...شعرت لحظتها بوهن الإحباط يسري في عروقي كرسيس الحمى... لكني رغم ذلك سألته إن كان يعرف (نوزاد)؟!

فَزَّ الرجل كالملسوع في غفوته سائلاً بنبرة اندهاش استنجاديه وكأنه غريق وجد قشة ليتشبث بها:

كيف تعرف عمي (نوزاد) في هذا البلد الغريب؟!

جلسنا بين أكداس الكتب التي كانت في الصناديق أو مبعثرة على الأرض، غير مكترثين بمرور الزوار الذين يتوقفون لاستعراض عناوين الكتب، وبعضهم يلتقط بعض الكتب من الصناديق، لفرادة عناوينها، بالنسبة لما يُعرض في منصات عرض الكتب الأخرى!

تحدث (آزاد) عن دروب الشقاء في البحث المضني عن (عمه) في المدن التي يجهلون الدروب فيها، وعن سنوات السجن المريرة التي أمضاها والده (شقيق نوزاد) في السجن، لأنه سأل عن مصير أخيه، وعن بحثهم في المقابر الجماعية جنوب ووسط البلاد بعد الغزو الأمريكي وسقوط النظام الدكتاتوري، وعن حزن (أم نوزاد) المتشبثة بأي خيط واهٍ متعلق بمصير ولدها فـ (الأم لا تستطيع أن تنسى ولدها البعيد فكيف بالمفقود)؟!

امه التي واصلت الليل بالنهار حزناً، وحنيناً، وبكاءً، وانتظارا، على مدى أكثر من ثلاثين سنة حتى وافتها المنية قبل خمس سنوات! 

ظل (نوزاد) مقيماً في روحي يطرق علي النافذة في آخر ليل المعتقل، أو على أرصفة الغربة والتشرد ليطمئن علي، وانا لم اكف في حلمي وصحوتي عن الصراخ المكبوت:

أبحثُ عن "نوزاد"!

جبلٌ من كوردستان تَخَفى فَجراً في سبعيناتِ القَرنِ الماضي ...

ومَضى ...

يَخرِقُ أنياباً مُصْطَكَّة ...

أضْيَّقُ من سُمِّ الأُبرةِ ...

يَبحثُ عنّي!

تُنْبِئهُ الريحُ بِضَيمٍ يَجتاحُ الأهلَ على أطرافِ الهورِ ...

يَدخلُ "عاصمةَ الجوعِ" (1) بلا وَجَلٍ قَبلَ بزوغ الفجر ...

باغَتَني وأنا أرسمُ لوحةَ شَفَقٍ ...

فَوقَ صِريفةَ أهلي بـ "خرابةِ سِعْدَة" (2)!

حَمَّلَني شَوقاً عَبِقاً ...

من شَجَرِ الجَوزِ ...

إلى حَقلِ العَنْبَرِ!

أمضينا بِضْعَ ظلامٍ دونَ سُهادٍ ...

نَحْكي ...

عن نَفقٍ يُخْرِجُني من جوفِ الذِئبِ الهائجِ ...

لدروبِ الحريةِ!

****

تسألُني بُستانُ "القَصَبِ السُكَرِ" ...

عن أخبارِ "الجبلِ الشامخِ" يَنشرُ زَهواً ...

ومَهيباً يَخطو في "سوقِ النجارين"!

يَتَعثَرُ بالفُقرِ المُتَراكمِ في الطرقاتِ ...

أُخبِرُها:

هذا من وطنٍ لايُذْعِن ...

وبلادٍ لا تَعرفُ إذلالَ الروحِ!

يَسألُها "الجَبلُ الشامخُ":

أينَ مدينتُكُم؟

لا ألْحَظُ مِنها حَجَراً فَوقَ الأرضِ؟

فتجيب بِصَوتٍ مَحزونٍ:

بِمَقابِرِهِمْ تَحتَ أديمِ الأرضِ ...

لا يَظهرُ مِنها إلاّ طَفَحُ الفُقرِ الراسخِ فيها ...

مُذْ قَسَّمَ آدَمْ أُسرَتَهُ ...

سلطاناً وعبيد!

****

قالَتْ أمي للضَيفِ المُثقَلِ بالكَرْمِ وأشجارِ البَلوطِ:

كُلُّ منافِذَ بَلدَتِنا مَقموعة ...

حتى مَسرى الطيرِ إلى البصرةِ ...

ومَشَيْنا ...

"الجَبَلُ الشامخُ" ...

ولُفافةُ ورقٍ مَكتومٍ ...

وهمومي ...

صَوبَ نَخيلِ "المَعْقَلِ"(3)!

****

آوينا وجُموعُ المُحتشدينَ بِصَخَبِ خَلْفَ الجدرانِ الصَمّاءِ ...

وجَلَسنا كالغرباءِ بِصَفِ المُنَتظرين ...

تَخرِمُنا أحداقٌ ...

شَرَرٌ مُتَطاير ...

كعُيون ذِئابٍ تتأهبُ في عُمُقِ الليلِ!

يَعوي صوتُ قطارِ "البَصرَةِ – بغداد" ...

نَتَسَللُ بين زُحامِ المُنْفلتينَ إلى أفواهِ العرباتِ ...

تُربِكُنا أجسادُ الناسِ المدفوعةِ للبواباتِ ...

نُلْقي أنفُسَنا قَسراً لِشفاهِ البواباتِ ...

يَقمَعُني بَغْلٌ من جِفنِ البابِ ...

لسيوفِ العجلات ...

تُقْطَعُ قَدمي ...

أُلقى مأسوراً للحَذَرِ القاتِلِ فَوقَ سَريرِ الآهاتِ!

****

دَهْراً أَقضي ...

دونَ حِراكٍ ...

أنْهَضُ مَعْلولاً بَعْدَ قُرونٍ ...

أسألُ عن ذاك "الجبلِ الشامخِ" يَكمُنُ في روحي ...

مُذْ تِلك الليلةِ ...

في كُلِّ الشُرُفاتِ ...

دونَ مُجيبٍ حتى الساعةَ ...

أو ...

ومض يُفْقِئُ تِلك الظُلُماتِ!

(1) عاصمة الجوع: محافظة ميسان جنوب العراق.

(2) خرابة سعدة: أكبر مجمع لأكواخ الفقراء في مدينة العمارة في خمسينات القرن الماضي.

(3) المعقل: من بين أعرق مناطق البصرة وتقع فيها محطة القطار الرئيسية.