من مجموعة (مرثيات سومرية)
حكاية ونَص
****
في هذه الأيام العسيرة على اشقائنا في السودان، التي تكالبت عليهم فيها قوى الظلام الدولية والإقليمية والمحلية...لابد ان نتذكر في مثل هذا اليوم 28/7...
ليلةُ الغدر بـ "محجوب"! 
منذ أكثر من شهر وانا اتخبط مع صديقي "سر الختم الطيب" الذي توقف قلب ابنه الصبي (محجوب) ابن العاشرة من العمر، الراقد في العناية المركزة بالمستشفى المركزي... المتشبث بالحياة من خلال جهاز قلب صناعي، بانتظار وقوع "معجزة" الحصول على قلب متبرع في وقت يجهلونه!
التأم الأصدقاء لتوفير المبلغ الباهض الذي طلبته جهة (متبرعة) في تايلند، ويتسابق الجميع مع الوقت لاستكمال المبلغ، وإنهاء إجراءات نقل الصبي إلى تايلند، بمبلغ يعجز صديقي (الطيب) عن توفير ما دون 10% منه.
وفيما نحن نجلس في الممر المؤدي إلى صالة الإنعاش، تعالى صراخ في صالة الطوارئ...كانت امرأة باكستانية في الأربعين من العمر ممددة على الأرض كالذبيحة تبكي ولدها الفتى "بشير الله" الذي تعرض لحادث دهس أثناء عبوره الشارع من المدرسة إلى البيت، وقد خيم وجوم مَهيب على المكان، وكان الفتى الضحية ممدداً خامداً على نقالة صالة الطوارئ!
بعد أكثر من ثلاث ساعات أفاقت الأم الباكستانية الثكلى وقد احتضنتها (أم محجوب) مُعَزِيَّةً، دامعة العينين، مذعورة من الموت الذي يحوم في المكان ويترصد ابنها (محجوب) العالق بالحياة بخيط رفيع من الأمل الكامن في الغيب...
ودار حديث الأمومة المفجوعة بينَهُنَّ، وجلست مَعَهُنَّ طبيبة ذات ملامح أوربية كانت لساعات مع الصبي (محجوب) العالق بين الحياة والموت، لتشارِكُهُنَّ تهدئة النفوس...
وفجأة هَبَّتْ إليهم (أم محجوب) هامسة لهم، وعيونها المغرورقة بالدموع تكاد تخرج من محاجرها:
جاء الفرج...الحمد لله!
ثم كتمت صوتها...
كنت في صالة الانتظار في المساء مع صديقي (الطيب) لساعات طويلة...اراقب أُمٌ تفقد ولدها وتحمل قلبه وديعة في صدر صبي لا تعرفه، وأخرى تدعو الله أن ينقذ ولدها بقلب صبي لا يعرفه، سيبقيه على قيد الحياة!
وتقاطر عليهم الأصدقاء الذين يوحدهم القلق وروح التكافل...يومها عرفت لأول مرة أن صديقي (الطيب) هو ابن أخ "النقابي عثمان سر الختم" الذي أعدمه النميري في "الثامن والعشرين من شهر تموز عام واحد وسبعين وتسعمئة وألف"...إثر فشل الحركة التي قادها الرائد هاشم العطا...في الساعة الثالثة ظهراً من يوم التاسع عشر من تموز عام واحد وسبعين وتسعمئة وألف!
بعد أن أفاق الصبي (محجوب) من التخدير كان إلى جواره أمه، وفي الجانب الآخر (أم بشير الله) تضع رأسها على مقربة من صدره لتسمع دقات قلب ابنها الفقيد!
تحدث (الطيب) لأول مرة بالسياسة التي كان متَحَدِّثُها المُفَوَّهِ في مجالسهم، ولكنه انعقد لسانه منذ محنته بابنه...وراح يسرد ما يتذكره من أخبار تلك الأيام: 
في ساعة مبكرة من صباح الثاني والعشرون من شهر تموز عام واحد وسبعين وتسعمئة وألف أرسل القذافي طائرتين مقاتلتين ليبيتين لإسقاط طائرة الخطوط الجوية البريطانية .VC10 التي كانت تقل بابكر النور وفاروق حمد الله – القادميْن من لندن، فاضطر قائد الطائرة إلى الهبوط في بنغازي، ومن هناك تم اقتيادهما إلى صالة المطار، وأعادهما القذافي إلى الخرطوم، ليتم إعدامهما إلى جانب هاشم العطا وجميع الضباط والعسكريين الذين شاركوا في الحركة! 
في الوقت الذي تم فيه إلقاء القبض على عدد كبير من القيادات المدنية للحزب الشيوعي السوداني ومنهم الشفيع أحمد الشيخ وجوزيف قرنق وسكرتير الحزب الشيوعي عبد الخالق (محجوب).
يتطلع (الطيب) من وراء الزجاج إلى الصالة المضيئة التي يرقد فيها ولده، ويتابع الأم الباكستانية وهي تغطي صدر الصبي (محجوب) كي لا تمسه الريح الباردة!
ويعود (الطيب) بذاكرته مُتحَدِّثاً لي:
يقول الصحفي ادريس حسن: 
عندما دخل العميد أحمد عبد الحليم على النميري قال له النميري منفجراً من الضحك:
(إن السادات داهية وخطير!) ...
وذلك لإن السادات... وبدلا من التوسط لدى النميري ليبقي على حياة عبدالخالق، لأنه قد وَعَدَ الروس بذلك، قد حَثَّهُ على الإسراع بإنهاء حياته!
ويصف الصحفي ادريس محاكمة (عبد الخالق محجوب) بقوله الذي تناقلته ألسِنَة الناس:
(لابد أن أذكر موقف عبد الخالق محجوب كإنسان، فقد كان شجاعاً بكل ما تعني الكلمة من معنى، وثابتاً كل الثبات...كان يتحدث في أحرج الأوقات وكأنه يتحدث في ندوة سياسية)! 
ويضيف:
عندما سأله الحاكم العسكري:
ماذا قدمت للشعب السوداني؟
قال بثقة:
قَدَّمتُ للشعب السوداني...قَدْر الإمكان (الوعي)!)
عدتُ محمولاً على أجنحة البهجة لنجاة (محجوب) ابن صديقي (الطيب)، وقلبي كسير على الصبي الباكستاني (بشير الله) الذي سيبقى قلبه ينبض في صدر أخ له لم يلتقيه...وحزني متفاقم في عروقي...منذ تلك الليلة:
ليلةُ الغدر بـ "محجوب"!
كُنّا تِلكَ الليلةَ نَجلسُ في بئرٍ من خوفٍ ووعيدٍ...
نُصغي لرفيفِ طيورِ الذاكرةِ المَحفوفةِ بالممنوعاتِ...
أقدامُ التفتيشِ تَدُقُّ الأبوابَ الخلفيةَ للمدنِ المَذهولةِ...
وفريقُ الإعدامِ يُكَبِّلُ “محجوبَ" قُبَيْلَ بُزوغِ الفَجرِ...
****
"فاطمةٌ" تَسألُ عَن: 
سِرِّ العَقربِ...يسري فَوقَ بَريقِ المرآةِ...
الـ كانَ "شفيعٌ" يأتي مِنها...بَعدَ غروبِ السُلطةِ...
طِفلُ جائعٌ من أطرافِ الخُرطومِ يُقَلِّبُ صفحاتَ التاريخِ...
يَبحثُ عن كِسرة خُبزٍ بين نِيابِ العَسكَرِ...
وضجيجِ الوعّاظِ "المُنْقَرِضينَ"!
****
طابورُ نساءِ يَلْبَسْنَّ الليلَ نَهاراً...
نيلٌ أحمر يَغمِرُهُ السَمَكُ النافِقُ...
يَدبي قَهْراً...
من "حي المكيِّ"(1) بأم درمان...
لعيونِ الفقراءِ المرصوفينَ على شطآن الألواحِ الطينيةِ...
وشوارع "باكو"(2) الخلفية!
****
عجوزٌ من "كَسَلا" قالَت لِحفيدَتِها...
حَبُوبَة:
ما كانَ القُطنُ بلونِ الثَلجِ قَديماً...
لكنْ...
مِن فَرطِ الظُلْمِ تَداعى شَيْباً!
****    
و"أبو شلال"(3) يُمسِكُ فروتهُ الفُضِيَّةِ...
يُشْبِكُها بأصابعِ غَيْظٍ مقروحه...
يَسألني:
ما كانَ الأجدَرُ بالقتلةِ أن يبقوا نبضاً في جسدِ السودانِ المعلولِ... 
كي ينهضَ غَبَشاً في هذا الزمنِ المحمومِ؟!
ويتمتم كالغارقِ في غيبته:
هَلْ يَعرِفُ أهلي في "أمْ درمان"...
إنَّ نزيف الوجعِ الفاتِكِ فيهم...
يَخْرِمُ قَلبَ نَخيلِ البَصرةِ؟!
****
أمَمٌ تمضي وقرونٌ تَعقِبُها خاويةً...
وأنا أجلسُ مُنْفَرِداً في مُفترقِ الدَربِ إلى غاباتِ الإعصارِ...
أرمُقُ جَرَيانَ الأزمنةِ المنحورةِ قُرْباناً لأميرِ مَصائِرِنا...
تَمرَحُ حولي أوراقُ الشَجَرِ القُدْسيِّ...
غُيومٌ داكنةٌ تَقْطِرُ مِزْناً يَغسلُ أحزانَ الأرضِ...
وتبكي...
دموعٌ تَنسابُ بفيضٍ فَوقَ خدودِ المُدُنِ المَهجورةِ...
تَفتحُ غِدرانَ يَبابٍ في جسدِ القَمرِ المَيِّتِ عِندَ رُموشِ العَينِ...
أُلَمْلِمُ أصواتي المنثورةَ في أعشاشِ الطيرِ...
وأسري في مدياتٍ يَعرِفُها الغاوون!

 (1) حي المكي: الحي الذي ولد فيه الشهيد عبد الخالق محجوب بأم درمان.
(2) باكو: المدينة التي عقد فيها أول لقاء للحركة العمالية لشعوب الشرق في مطلع القرن الماضي.
(3) القائد النقابي العراقي (الفقيد)عبد الأمير عباس.
*انتهت حياة الشهيد عبد الخالق محجوب على حبل مشنقة سجن كوبر في الساعات الأولى من صباح الأربعاء 28 يوليو 1971 م.