من مجموعة (مرثيات سومرية)
حكاية ونَص:
في مثل هذا اليوم 1/8...
و"إذا الايامُ أغسَقَتْ" فَلا تَنسوا "حياة شرارة"! 
بعد أن تفاقمت عمليات اغتيال الأطباء في العراق...صارت بيوتهم مهجورة من أهلها، ومؤسساتهم الصحية مقبورة بالخوف...وهم مذعورون تلاحقهم لعنة (امتلاك العقل!) في محيط تطغى عليه عقيدة (تكفير العقل!) ...
كنت وزوجتي في المطار بانتظار وصول صديقتها (نسرين الواسطي) و(زوجها الدكتور عبد العال - جراح الجملة العصبية) وأطفالهما اللذين تمكنوا من الإفلات من (كواتم الصوت) أمام دارهم، ونجحوا في اختراق جدار المفخخات الذي يقطع الشوارع عليهم، ونفذوا من كمائن المُخْتَطفين الكامنة لهم في مفترقات الطرق، وهربوا ليلاً في الخفاء إلى خارج الحدود!
بعد صمت ثقيل وطويل وحزن عميق مُحتَبَس في النفوس خيم علينا عند وصولهم... لم تشأ (نسرين) الحديث عن رحلة الخوف التي قطعتها وزوجها وأطفالهما الثلاثة... إلاّ أن تُقَلِّبَ صفحة لم تبرح ذاكرتها عن أستاذتها (الدكتورة حياة شرارة)، لأنها تُدرك مدى تقديري وزوجتي لها واعتزازنا بها...
تداعى عليَّ من علياء الذاكرة يوم الأول من آب سنة سبع وتسعين وتسعمئة وألف...عندما سمعت نبأ:
وجدوا (حياة شرارة) ميتة مع ابنتها (مها) في جو الحمام المملوء بالغاز في الدار!
وتم إنقاذ ابنتها الصغرى زينب! 
وحال ورود الخبر المفجع الذي رافقته وأحاطته المزيد من الشكوك والتأويلات... والتساؤلات:
هل يعقل أن مثقفة وأستاذة جامعية بمكانة ووعي (الدكتورة حياة شرارة) تَقْدِم على الانتحار مع ابنتيها بهذه الطريقة التراجيدية!
لكني استدركت بما اعرفه، وبما رسخ في عقلي... عما أحاط بها وبغيرها من أمثالها... في سنة ثمان وسبعين وتسعمئة وألف من ظروف قمعية وحشية، عندما شنت السلطة أوسع عملية ملاحقات واعتقالات واختطافات وإعدامات ضد الشيوعيين واليساريين وكل من يخالفها الرأي، ورافقتها بعمليات (إرغام) على الانتماء لحزب السلطة بهدف تسقيط هيبة وكينونة أولئك الشيوعيين واليساريين بعقول وضمائر الناس الذين يحترمونهم... حينها دعاها عميد كلية الآداب بجامعة بغداد (ضياء حمودي رصاص بارود) إلى مكتبه، وطلب منها الانتماء إلى حزب البعث الحاكم فرفضت، وعلى الفور صدر قرار من مجلس قيادة الثورة بنقلها من (أستاذة في الجامعة) إلى موظفة بـ (معمل السمنت في السماوة)، وعندما وصل كتاب النقل إلى وزير الصناعة آنذاك (محمد عايش...الذي اعدمه صدام فيما بعد) كتب في هامش أمر نقلها:
(ليس لدينا تدريس تولستوي في معمل السمنت في السماوة)!
بالإشارة إلى اطروحتها للدكتوراه في الأدب الروسي عن "ليف تولستوي"!
وإثر موت زوجها بعد اعتقاله سنة اثنتان وثمانين وتسعمئة وألف، تعرضت (حياة شرارة) لضغوط وملاحقات أنهكت قدرتها على التَحَمِّلِ، فانكفأت عن الحياة العامة، ورغم ذلك لم تتوقف السلطة عن تضييق الخناق عليها، وإحصاء أنفاسها وابنتيها، فقد مُنِعَت من السفر، ومُنِعَت من الكتابة والنشر في المطبوعات، كما مُنِعَت كتبها!
عندئذ طلبت إحالتها على التقاعد، رفض العميد طلبها، ثم قدمت طلباً للسفر مع ابنتيها خارج العراق، ورفض طلبها، لأنها تحتاج إلى محرم!
تنحت (نسرين الواسطي) جانباً تحدث "زوجته أثيرة"... وتروي لها عن لسان أقرب الناس إلى (حياة) وابنتيها:
(كانت ابنتها "مها" تحس بنفس إحساس والدتها، تحس بإحباط كامل. فعندما عادت من المقابلة التي اجريت لها للتقدم على وظيفة، رُفضت بسبب أسم والدتها، وليس على الكفاءة. فقد أثبتت كفاءتها في امتحان المقابلة، وقبلت من قبل مدير الدائرة لكنها رفضت من قبل الوزير! 
فوجدت جميع الأبواب موصدة أمامها، واستغلت غياب والدتها وشقيقتها زينب عن الدار لتنفذ خطتها، ذهبت إلى الحمام وأغلقت الباب عليها وفتحت قنينة الغاز!
عندما عادت حياة مع ابنتها زينب إلى الدار، وأحست برائحة الغاز، توقعت ما كانت تفكر به هي، فقد خطرت لها فكرة الانتحار والتخلص من أعباء الحياة من قبل، لكنها فوجئت عندما سبقتها ابنتها "مها"! 
نظرتْ "حياة" حولها..."مها" ممددة أمامها، ما الذي ستفعله الآن، "مها" انتحرت، "مها" جثة هامدة أمامها)!
مضت ساعات الانتظار في المطار سريعة رغم ثقل دقائقها بفعل تراكم صخور الموت على الصدور... وأزف موعد الرحيل... وعندما ودعتهم (نسرين الواسطي) وأسرتها قبل مغادرتهم إلى مجاهل الغربة... تردد من وجيب قلبي لأوتار صوتي المعقودة، ما يمور في نفسي فكتبت:
و"إذا الايامُ أغسَقَتْ"(1) فَلا تَنسوا "حياة شرارة"! 
أصْغَتْ فاتِنَةٌ من حاراتِ النَجَفِ المأهولةِ بالشِعْرِ ...
لصَوتٍ من فَجرِ التاريخ الأولِ ...
أن تَحمِلَ حَجَراً ...
زاويةً في يَدِها ...
لصُروحِ "جنائنَ بابل"!
والأخرى تَنشِرُ عِطراً في أروقةِ الحَرفِ القائِمِ دونَ نُقاطٍ في سورةِ اقرأ!
هَتَفَتْ أقوامٌ مِنْ خَلفِ الصحراءِ المَسكونةِ بالأحناشِ الصَدَفيَّةِ:
هذي امرأةٌ مِن رَفضٍ ...
يَسكُنُها الجِنُّ الأحمَرُ ...
تَزرَعُ شَرَراً في أدمِغَةِ السُلطَةِ التِبنِيَّةِ ...
فـ " قَضَتْ مَحكمةُ الأورامِ الفَحميةِ:
أن تُلْقى قَسراً...
في جُبِّ الحَيرَةِ!
****
سارَتْ قافلةٌ تَنزفُ وَجَعاً في دربِ المَوكِبِ ...
من بَوابةِ عشتارَ لبيوتِ "الكرادةِ" ... (2)
تَحملُ أحلاماً ودموعاً غَضَّةً ...
بقايا كلماتٍ فاحمةٍ دونَ شِفاهٍ ...
يَطويها نَعشٌ من خوصِ النَخْلِ المَفجوعِ بـ "سبعِ قصور" ... (3)
وقَفَتْ راعشةً عند جدارِ العَرشِ الغارِقِ بالحمى ...
قُدِّسَ سِرُّ المرأةِ ثاقبةٌ في أزمنةٍ صَمّاء ...
نَشَبَتْ نارٌ خلفَ الأبوابِ المَكفوفةِ ...
لا أحَدَ يَعرِفُ من أشْعَلَها ...
إلاّ السُلطَةَ!
****
شَبَّتْ "بِنتُ شرارةَ" كالعنقاءِ قُبَيلَ أُفولِ الأصنامِ العَبَثيةِ ...
كانت أوثانُ القِشِّ اليابسِ تَعوي ...
تَخْشى جَذوَتَها ...
تَعرفُ أنَّ "حياةً" خَصماً أزلياً ليبابِ الأزمنةِ الرَسميةِ ...
"شرارةُ" وهجٌ في أقبيةِ القَمعِ المُكتَظَّةِ بالرَفضِ!
****
من يَجرؤ أن يَخمِدَ في هذا الليلِ "شرارةَ"؟!
إلاّ أوحالُ السُلطةِ!
****
"حياةٌ" كانَت فَيضَ حياةٍ فينا ...
تَغِمُرُنا ...
مِنذُ الاستفهامِ الأولِ في أقبيةِ الزُهدِ ...
لرسيسِ النارِ المأجوجَةِ في شرفاتِ الجَسدِ الآفلِ بالغُربَةِ ...
"حياةٌ" طَرَقَتْ كُلَّ الحيطانِ المأسورةِ ...
تُنَقِّبُ عن نفقٍ يُنْجيها مِنْ نَهَمِ الإحباطِ ...
أزيزِ النارِ ...
إلى أحزانِ الغُربَةِ!
"حياةٌ" صاغَتْ حُلُماً مِنْ بَعضِ فُتاتِ الغَسَقِ الآيلِ للأبديةِ ...
نَسَجَتْ أجنحةً من ضوضاءِ التاريخِ المُزْدانِ بألوانِ الخَيبَةِ ...
حَرَثَتْ جُلَّ دروبِ الاستفهام الشائكِ ...
نَبذَتْ تيجانَ الإغواءِ البائِرِ ...
تَرَعَتْ كأسَ الضَيْمِ إلى آخرِ قَطرة ...
لتكونَ بعيداً عن أدران السُلطَةِ!
****
لكِنْ...
تَتَعقَبُها الأحقادُ المَخبوءة في ذرّاتِ الزَمَنِ الفاسِقِ ...
مُنذُ ولادتِها ...
جانَبَتْ الباطِلَ مُلتَهِباً في كُلِّ مَحطاتِ العُمرِ ...
تَعِبَتُ ...
ألقَتْ آلامَ الرِحلةِ في نَبْضِ حروفٍ لَنْ تُنْسى ...
شُدَّتْ خَلفَ ضُلوعِ المرأةِ أقوامُ كُفوفٍ قاحِلَةٍ تَدفَعُ نَحو التَنّورِ المُتأجِجِ ...
فَتَهاوَتْ في لُجِّ النار!
"زينبَ" ضَمَّتها عِندَ يمينِ القَلبِ النازفِ خَوفَ شَواظٍ يُؤْذيها ...
و "مَها" غَرَستها تَحتَ الأضلاعِ بِصَمتٍ ...
كي تَتَماهى فيها...
"حَياةٌ" وِلِدَتْ من بينِ غُبارِ الطَلْعِ ...
وحَطّتْ فَوقَ كتابِ البَردي ...
وَضَعَتْ حَبّاتِ العَنْبَرِ في النَصِّ الطينيِّ ...
ألْقَتْ وَلَهاً تَحْتَ جُذورِ الأرزِ اليانعِ ...
أسْرَتْ دونَ وَداعٍ لفيافي الغَيبِ الأبديِّ ...
فَلا تَنسوها!
(1) "إذا الأيام أغسقت" عنوان رواية لضحية الدكتاتورية (الدكتورة حياة شرارة).
(2) الكرادة (3) سبع قصور: منطقتين في بغداد أقامت فيهما أسرة الشهيدة حياة شرارة، هذه الأسرة التي أسهمت في إضاءة ثقافة التمدن في العراق، على مدى عقود من الزمن وماتزال.