تَرانيمُ الحُزنِ!

كلما ألقى رأسي على وسادة أحسبها خالية من الهموم والغموم، أجد روحي في حضرة (النَواحِ) من فرط الحزن، فاستكين لما تقوله النفس:

تلك بعض من نسغ حُرِّ طينِ ما بين النهرين، المفعم بالعواطف الجياشة، والعيون المغرورقة بالدموع منذ الولادة، والحناجر المثقفة للنحيب منذ فجر التاريخ، لأن الانسان العراقي كباقي شعوب الأرض تعلم قَبل الصَيد...مهارة التعبير عن أحزانه ومشاعره تجاه الفواجع والكوارث، بإيقاعات صوتية، فنصوص نثرية وشعرية، وأنغام موسيقية، وأصوات شجية تنبثق تأوهات من الصدور، قبل أن تنطلق آهاتٍ غنائية من الحناجر!

يستحضر فيها مآسيه الموروثة والمتناسلة، الكامنة في ذات مجتمعاته، والمكثفة في ذاته الشخصية، تسري من جراح أيامه النازفة إلى عروق الكوارث المتخيلة التي يخشى نزولها عليه، فيستبقها بالنواح!

يشكل (النَواحُ) المتواتر حُزْناً على خراب المدن وسقوطها، أو أسىً على تَفَرُقِ الأحبة وتشردهم وغربتهم وإذلالهم، تحت سطوة الغرباء الطغاة أو الأقرباء الأنذال أو البغاة الوطيؤون، الذين خربوا الحواضر بعد عمارتها، وأحطوا من مقامها بعد تألقها، فصارت تلك الخرائب في نفوس أهلها مواكب نواح أبدية يستحضرون فيها الفواجع من إرث الأجداد، ويؤججونها بمآسي الضيم في حاضر أيامهم، وينفخون بها جَمْرِ الآتي (المُتَخيَّل) من الأهوال المضمرة لهم وراء أفق الغيب فيستبد بهم الغَمُّ!

أمست تلك الكوارث التي تصيب (الأوطان المقدسة!) وأهلها، من معابد (سومر وأكد) إلى نواح أهل (أكواخ القصب والبردي)...ونكبات ابناء الجبل... من بين أكثر الأهوال التي حظيت بها المراثي والمنادب والنواحات في التراث الفني الإبداعي العراقي!

تلك (البكائيات) التي تميزت بالبلاغة والفصاحة والاستعارة المستنبطة من بيئة القرية الزراعية، التي تستضيف في توصيفاتها (نوح الحمام، وخصب السنابل، ورقراق الماء، وشموخ الجبل، وفيء النخل، ونقاء الهور).. وكل ما في الطبيعة من ثراء، وسخاء، وديمومة، وشغف! 

رغم أن أدب المراثي والمناحات بدأ في (المعابد) واستوطن فيها منذ أن نشأ الخوف في كينونة الإنسان، وجعله يلوذ بالمعبد كمُخَلِّصٍ له مما يعجز عن قهره، وباباً روحية له توصله إلى سماء القدرة اللامحدودة... التي تحميه من الخطر القائم أو المختبئ في رحم الغيب!

لكن (أدب النواح) انتشر من تلك (الجدران المقدسة!) إلى نفوس الناس وسرى في وعي الإنسان (الفردي والجمعي) وفي (لا وعيه)، واستوطن إيقاعات طقوسه، وأثرى محتوى تراثه المعرفي الشعبي!

ومع الزمن صار لـ(أدب النواح) أجنحة للمُباح من المشاعر والمحظور منها، يخفق بها حُراً في فضاء الذاكرة وتنطق به الألسن، وتحفظه الصدور!

والعراقي جُبِلَ على (النواح) في حياته مُسْتَبِقاً موته، وفي عشقه خشية فقدان الحبيب، وفي لحظات فوزه خوف خسارته الكامنة في قرارة الفوز!

وللمرأة مكانة خاصة في (أدب النواح) فالشاعر يبكيها في عشقه لها، وفي فراقه لها، وعند لقائه بها، وحتى في صبرها عليه أو خيانتها له أو خيانته لها!

يتسع فضاء (النواح) عندما تُذْكَرُ الدنيا لأنها (مستودع الأحزان!) في وعيه، ومكمن الفواجع المُخَبَئَةِ له في مجهول أيامه!

لم تكن أول شاعرة في التاريخ الأميرة (إنخيدوانا) ابنة سرجون الأكدى في الألف الثالث قبل الميلاد... أول نائحة...وهي القائلة في قصيدتها " تسبيح من أجل أنانا":

(أه، أيتها الملكة التي ابتكرت النواح

مركبُ النواح سيرسو في أرض معادية

وهناك سأموت، أنشدُ الأغنية المقدسة!)

لكن النواح لم يَرسُ في أرض معادية!... يا (إنخيدوانا)...

بل عشعش في نفوس أهل العراق واستوطن أرضهم...

ولم ينقطع بنواحك ولا بنواح نسائنا على فجيعة كربلاء...ولا بنواح أمهات شهداء حرب الثماني سنوات مع إيران، أو نواح أمهاتنا المنكوبات بمجزرة الأنفال في كوردستان، ولا بنواح أمهات شهداء حرب "تحرير الكويت وتدمير العراق!" أو أنين أخواتهن المغيبات في المقابر الجماعية لثوار الانتفاضة الشعبية في وسط وجنوب العراق... ولن تكون آخرهن النائحات على سبي أهلنا الأيزيديين، ولا على نزوح الملايين النائحة من بيوتها خوفاً من توحش الإرهاب في مدن غرب وشمال العراق...ولا بنواح أمهات شهداء "سبايكر"، ولا بنواح أمهات شهداء شباب تشرين، ولا بنواح أمهات المغيَّبين في طول البلاد وعرضها!

وفي زماننا البائس هذا...

أصبح (النواح) "تجارة مقدسة!" يقتات عليها المعممون الطفيليون، ويروج لها المُلَطِمون المُضَلِلون، وتُغَيَّب به عقول الجاهلين لتشويش بصائرهم عن أسباب حزنهم ومُسببي ذلك الحزن من التجهيليين الفاسدين... اللصوص...المستبدين!

وفي (أدب النواح) تستخدم النصوص الوجدانية الحزينة، والإيقاعات الموسيقية التي تلامس الروح، والمقامات الصوتية التي تثير الشجن في النفوس وتُدمِع العيون!

وتسلب راحتنا في الصحو وتحرمنا من النوم...

لم أقوَ تلك الليلة مثل جميع الليالي إلاّ أن أغمض عيني على نواح أمي متسائلاً عن سر الحزن الكامن فينا منذ النطفة؟!

لأصحو متفرداً مع نفسي أكتب عن (ترانيم الحزن):

تَرانيمُ الحُزنِ!

محمود حمد

هَلْ أنَّ الحزنَ مُقيمٌ فينا؟!

أمْ أنَّ الدُنيا أزمنةٌ تَتَواترُ فيها النكباتُ؟!

ها أنتَ تُغرِدُ في سربِ المُعترضينَ على تأبيدِ الحُزنِ بأحداقِ الإنسانِ...

فَيخفقُ – مِنْ وَلَهٍ _ فيكَ...

رفيفُ المحزونينَ...

حِداءُ "المطلوبينَ" بعيداً في سِرِّ الصحراءِ!

هذا داءٌ فينا رَسَخَهُ الطُغيان...

لا نَعشَقُ عرشَ الأحزان...

لكِنّا نَطويهِ بِصبرٍ كَيْ يُمسي...

كيراً للإبداعِ الوَلهان!

صِنّاجةُ طَرَبٍ تَجمعُنا حولَ الفانوسِ المَعلول!

دَبَكاتٌ نُفرِغُ فيها وَجَعَ القَلبِ إلى أوجاعِ الطُرُقاتِ!

تَحضُرُني – الساعة- أحداثٌ أُدعا فيها للبَهجَةِ والكأسِ العامرِ...

نَنْحو في أوَّلِ رَشفةِ كأسٍ بجنونٍ لحديثِ الأحزان!

****           

فَقَدَ الرُضَّعُ فينا أولى تَرنيماتِ البَهجةِ...

إيقاعَ الفَرَحِ...

وصاروا نَبْتاً مَحزوناً يولَدُ من دَمعةٍ...

لا لومٌ مِنّا للأجفانِ المتورمةِ بالأشجانِ...

لا ضجر مِمّا نألفُهُ مُنذٌ قُرونٍ...

لا شطط عن غيمٍ حالكْ يُغمرُنا مُنذُ النُطفَةِ حتى ظلماتِ الأجداثِ!

لكِنْ...

لَمْ يُرْبِكَ حُزناً في أيِّ زمانٍ طابورَ البَنّائينَ على شطآنِ النَهرينِ...

بَلْ صارَ شَواظاً فينا يَحرقُ أصنامَ القِشِّ المَرصوفةِ من سومرِ...

لقطيعِ “المَنطقةِ الخضراء"(1)!

(1) المنطقة الخضراء: موقع سلطة الذين جاء بهم الغزاة الأمريكان وملالي إيران للتسلط على مصير العراق وأهله!