من مجموعة (مرثيات سومرية)
نساءٌ عراقياتٌ... وبُرْكَة الدَمِ! 
كنت على موعد مع زوجتي التي لم تنقطع عن زيارتي كل يوم في الصباح الباكر بعد أن تُجَهِّزْ وتوَدِّع أولادنا إلى المدرسة...
أمضت أسابيع انتظار طويلة مثقلة بالخوف والوجع، وهي تنام على بلاط الأرض إلى جوار سريري في ردهة المستشفى عندما كانت حالتي حرجة!
لكنها ذلك اليوم لم تحضر...مما أوقد نار القلق في نفسي عليها وعلى أولادنا!
عند الظهيرة دخلت عليَّ برفقة امرأة شيباء مُتعَبة رغم ثبات خطواتها وانتصاب قامتها ونظرتها المتفحصة الثاقبة...باغتتني المرأة بتحية مفعمة بالألفة والود تصحبها ضحكة زوجتي وتغير ملامحها لاختبار ذاكرتي!
من ترانيم إيقاع صوت المرأة الشيباء تذكرت (تماضر) زميلة سنوات شبابنا، طالبة كلية الحقوق الفتاة... الجسورة بالرأي، الفصيحة بالقول، الرائدة بالفعل!
التي وصلت يوم أمس للمشاركة بمؤتمر دولي عن المرأة في المنطقة العربية...
لم تتغير طبائعها العائلية العميقة اللُّطف، ولا أساليبها الشعبية في التعبير عن نفسها أو الإفصاح المباشر عما تريد قوله...جلست تحدثنا عن وقائع وأخبار تُثقل روحنا وتُشغل عقلنا منذ عقود من الزمن، وكأنها انقطعت بالحديث عنها معنا قبل ساعات...تقرأ لي مقتطفات مما أعدته لإلقائه في المؤتمر: 
مَنَحَتْ المرأة العراقية للوطن أضعاف ما أعطى ويعطي الرجل، فهي التي أنْتُزِع منها عنوة وبالغصب فلذات كبدها، وترملت، وفقدت الأخ والأب، في جبهات حروب الطغاة، وتحملت أعباء الجوع والفاقة والحرمان سنوات الحصار الاقتصادي الذي استمر لأكثر من عشر سنوات، الذي فرضه (أصنام العالم المتكبر!) و(نظام الصنم في العراق)، وكانت تقتات فيها وأطفالها على طحين الحصة التموينية الذي نصفه رمل، وتخبز بيديها على الحطب، وتُدَرِّسُ أطفالها على الفانوس، وتخيط ملابسهم من الأسمال، وتدثرهم بالبطانيات البالية لتقيهم شدة البرد...حيث لا كهرباء ولا غاز ولا نفط في ثاني بلد باحتياطيات النفط في العالم...
بعد أن كانت (المرأة العراقية) قبل حروبهم الدموية العبثية، صانعة للجمال وباعثة للشغف، ورمزاً للدلال، والترف، والأناقة! 
واستدركت:
تشير دراسة أعدتها وزارة التخطيط العراقية إلى ارتفاع عدد الأرامل في العراق بسبب الغزو الأمريكي وأعمال العنف الطائفي التي اجتاحت العراق بعد آذار 2003 إلى مليونين ومئتي ألف أرملة، أي وجود أرملة واحدة بين كل ست نساء في العراق تتراوح أعمارهن بين 15 وخمسين عاما، مما يشكل أعلى نسبة تَرَمُّلِ بين النساء في العالم منذ الحرب العالمية الأولى عام 1918!
علماً أن 70% مِنْهُنَّ لا يتقاضين أي راتب أو إعانة مالية من الحكومة و30% مِنْهُنَّ يتقاضين مبلغ لا يكفي لتغطية نفقات أسبوع واحد من الشهر!
وتراكمت عليهُنَّ إضافة إلى فقدان المعيل وطعون الموقف الاجتماعي المتخلف مِنْهُنَّ...مصيبة النزوح من بيوتهن المصحوبة بالخوف والفقر والعوز...
مما اضطر المرأة العراقية بفعل تلك الظروف المعاشية الشديدة القسوة للذهاب إلى ساحات وسوق العمل البسيط أو المُهين، كالبيع على الأرصفة أو الخدمة في المنازل وجمع القمامة والتسول!
وأضافت:
وعندما سيطرت (الأحزاب الإسلامية!) على السلطة في العراق، بدأ أسوأ كابوس واجهته النساء العراقيات في حياتَهُنَّ، فقد استَلَبَت الأحزاب الدينية وميليشياتها الطائفية المتخلفة الحياة الشخصية الحرة من النساء العراقيات، وكان أول تشريع سعى (أمراء الطوائف!) إلى تغييره هو قانون الأحوال الشخصية، الذي كان ينظر إليه دومًا على أنه «الأكثر تقدمية» في الشرق الأوسط...من حيث الحقوق التي منحها للمرأة في ذلك التاريخ، والذي لعبت دورا رئيسيا في صياغته عام 1959 (الدكتورة نزيهة جودت الدليمي) أول امرأة عربية تتقلد منصب الوزير، والتي بدأت نشاطها السياسي في أواسط الأربعينات في جمعية نسائية اسمها “جمعية مكافحة النازية والفاشية”، وكانت رئيستها طالبة الحقوق (فيكتوريا نعمان)، التي أصبحت فيما بعد أول مذيعة في الإذاعة العراقية!
وقد سبقتهُن كرائدات...في مجال الحقوق (صبيحة الشيخ داود) وهي أول فتاة عراقية أكملت دراستها الجامعية في كلية الحقوق عام 1940 وأصبحت أول قاضية في البلاد العربية عام 1956، وفي مجال الطب عينت وزارة الصحة العراقية أول طبيبة عراقية، هي (الدكتورة آناستيان)، وهي أول فتاة عراقية دخلت مدرسة الطب في بغداد وتخرجت منها سنة 1939!
وبرزت (الصحفية بولينا حسون) رائدة الصحافة النسائية العراقية التي ترأست تحرير أول مجلة نسائية (ليلى) عام 1923، وكانت (بولينا حسون) من أول الأصوات والأقلام النسائية التي طالبت بمنح المرأة حقوقها السياسية!
في تلك الآونة دخلت الممرضة لإعطائي جرعة من مُسَكِّنِ الألم، فاغتربت عن مُحَدِثتي وانزلقت إلى ذاكرة ذلك اليوم الذي كان فيه الغبش راقداً على وسادة الأفق القرمزي الكسول عندما مَزَقَ أزيز الرصاص هدأة الغارقين في نومهم، وأفزعتهم صرخات النسوة المُستغيثات وعويل الأطفال في بيت جارتنا (أم عبد) في حي الثورة بمدينة العمارة!
تلك الدقائق التي استحالت إلى عصور من التوحش رسخت في ذاكرتي، حينها اختبأ الناس كبارهم وصغارهم تحت جلودهم من شدة الخوف الذي استباحهم بغتة!
وحدها الجدران الخرساء والأبواب المُطبَقةِ الأفواه وأبناء (أم عبد) واجهوا الرصاص بصدورهم العارية! 
ما أن توقف صوت الرصاص الدامي حتى تعالى الصراخ... فخرج الناس من بيوتهم محتشدين يعصف بهم الذهول والرعب حول بركة الدم التي قضى فيها أبناء (أم عبد) الثلاثة...بتهمة معارضة سلطة (الحزب القائد!).
لم تبدد الأيام رغم قسوتها تلك الصورة الكامنة في قرارة محيطي الاجتماعي البائس الذي ولِدت ونشأت فيه، ولم تغب عني صورة (المرأة العراقية) الملفعة بالسواد منذ الولادة، التي أوهنها الظمأ لرشفة من سُقيّا الحياة، فصارت هشيماً يابساً وهي في رحيق طفولتها وشفق صباها وريعان شبابها... 
لهذا...ما أن اقترب منها شواظ (التوحش العقائدي!) الماحق الحارق حتى استحالت أيامها إلى نارٍ أبدية تتلظى في روحها وتحيل ساعات عمرها إلى رماد، مثلما كانت لحظات حياتها حرماناً أزلياً يولد معها ويبقى بعدها متفشياً على الأرض...
لذلك لم تخلُ صفحة في سِفر حياتي من التأسي عليها... والكتابة عنها:

نساءٌ عراقياتٌ... وبُرْكَة الدَمِ! 
محمود حمد
مكتبةُ البَصلِ الأخضرِ:
جاءت تَتبضَعُ من مكتبةِ الحكمةِ بصلاً أخضر...
وَجَدَتْ رجلاً في منتصفِ العُمرِ يُتَمْتِمُ خَلفَ صفوفِ الكُتُبِ المهجورةِ...
طَرَقَتْ بابَ الفصلِ الأولِ من سيرةِ "يوسف" (1) ...
جاءَ الشُرطيُّ بلا وجهٍ بَعدَ أفولِ الأحداثِ...
كَبَّلَ "يوسفَ" والبَصَلَ الأخضرَ بالأصفادِ!
.................
عادَتْ للمنزلِ مهجورة!
******
نخلةٌ في الطريقِ إلى السوقِ:
وَقَفَتْ خَلفَ النخلةِ خَوفَ رصاصٍ طائش...
وَضَعَتْ طفلتَها بين القلبِ وجِذع النخلةِ...
ألقَتْ زَنبيلَ "المسواقِ" الفارغِ عندَ القدمين...
صارَتْ في زَنبيلِ "المسواقِ" الفارغِ أعشاشُ عقارب...
لاحَ خيالُ الابن المفقودِ يُلألئُ في تاجِ النخلة...
عصَفَتْ بالروحِ رياحُ ربيعٍ عارم...
خَرَّتْ والطفلةُ لجذورِ النَخْلة...
ألقَتْ رأساً مُتْعَبَةً للكَرَبِ اليابسِ...
نامَتْ في مَنأى عن زَخِ رصاصٍ طائش!
.................
كانَتْ جذعُ النخلةِ مَلغومة!
********
ابن المرأةِ المكفوفةِ: 
خَرَجَت "نوريةُ" تَبحَثُ والنسوةُ عن ابن المرأةِ المكفوفةِ...
بَحَثَتْ والنسوةُ في كدسِ الجُثَثِ المجهولةِ في أطرافِ "الشُعلةِ"(2) ...
وَجَدتْ ابن شَقيقتِها العاملِ طَبّاخاً في مستشفى الأمراضِ العقليةِ...
سَقَطَت فوقَ الجُثثِ المجهولةِ...
............
صارَت "نوريةُ" في "الشُعلةِ" معلومة!
******
درسٌ من التاريخِ: 
قَرأت كُلَّ فصولِ التاريخِ الأمويِّ...
ونامَتْ...
رَكَبَتْ مُبْكِرَةً في باصِ الكليةِ...
جَلَسَتْ كالعادةِ جَنْبَ النافذةِ "المشراقةِ"!
...........
وَعَدَتْ جَدَتَها أنْ تَعْرِجَ للمشتل"(3) بَعدَ الدرسِ الثالثِ...
دَوَّتْ قنبلةٌ في جوفِ الباصِ المُتثاقلِ بينَ زُحامِ الطُلاّبِ...
................
ظَلَّتْ جَدَتَها تَنْحَبُ حتى الساعةِ!
*******
التنورُ الجائعُ:
وَضَعَتْ في التنورِ شواظا من جمرِ القلبِ...
والتَفَّتْ تَحْتَ عباءَتِها اسرابُ جياعٍ...يَبْكونَ أباهَم...
قالَتْ لابنتها الكُبرى...أن تأتي بِعَجينِ الأسْرَةِ من قاعِ الظُلمةِ...
ذَهَبَتْ ابنتها مُسرِعة...
ذُهِلَتْ...
جَثَمَتْ بين الطفلةِ والتنورِ نِيابٌ صُفرٌ في جوفِ الليلِ...
تُقَتِّلُ كُلَّ رفيفٍ بـ(اسم الله) ...
خَفَقَتْ ابنتها كالعصفورِ الواقعِ في قفصِ الثعبان...
مُحِقَتْ اركانَ البيتِ وسربَ التنورِ الجائعِ...
.................
ظَلَّتْ طِفلتَنا تائهةً في الطرقاتِ...
"تُدَوِّرُ" عن أمٍ أجَجَّت التنورَ بِجَمرِ القلبِ وإخوان جوعى!
يوسف: النبي يوسف الصديق.
الشعلة: منطقة في بغداد تَذابَحَ فيها أفراد الأسر الواحدة (دون أن يعرف القاتل لِمَ قَتَلْ ولا المقتول لِمَ قُتِلْ).
المشتل: منطقة في بغداد تميزت مع عديد من مناطق بغداد الأخرى بحميمية العلاقات بين أسرها، وبتنوع سكانها الإثني منذ زمن بعيد.