هل حقاً...

لا يَصلِحُ لبلادِ النَهرينِ إلاّ السُلطانُ الجائِرُ؟!

في محاضرته التي حضرتها استخلص (الدكتور عبد العزيز الأحمد) أستاذ العلوم السياسية بمركز الدراسات الاستراتيجية الآسيوية:

إن المجتمع العراقي لا يمكن أن يعرف (الاستقرار) مالم يأتِ له حاكم قوي مستبد...

وأسند استنتاجه ذلك بمقتطف مما جاء في مقال لـ "باحث إستراتيجي أمريكي!":

(إن الكراهية الطائفية والعرقية كامنة في المجتمع العراقي، وأسبابها راسخة في عقول الناس وفي "لا وعيهم"، وهي بلا شك متأبدة ومتفاقمة مثلما هي متجذرة ومتناسلة، ولذلك نجدها تغذي الفوضى الدموية والعنف السياسي الذي جعل الحياة الطبيعية مستحيلة في هذا البلد، مالم "يخرج" حاكم قوي “مستبد" يضع حداً لصراع المجموعات العقائدية والعرقية والقبلية المسلحة والمؤدلجة التي تستهتر بحياة ملايين الناس)!

وعندما قاطعه أحد الشباب الحاضرين:

إن القمع والاستبداد لا يبني دولة متحضرة ولا يصنع استقراراً لمجتمع حُرٍ!

رد عليه (المحاضر) بثقة العارف:

ما تسميه بـ"الاستبداد" هو النظام "الراسخ"، نقيضاً للفوضى الدموية الواسعة والدائمة والفساد المستشري في كل مفاصل الدولة والمجتمع...التي نشهده اليوم!

لأن مجتمعاتنا تتشكل من "مكونات دينية وطائفية وعرقية" منفصلة عن بعضها البعض، ومتناحرة تاريخياً، ومهيئة لتصفية بعضها البعض حال ارتخاء قبضة الاستبداد عنها... رغم قشرة التهادن التي يختبؤون تحتها ويعبرون عنها بفعل الخوف من الحاكم المستبد!

خيم صمت استقصائي على الحاضرين في القاعة...بانتظار رأي آخر...حينها تحدثت موجهاً كلامي للمحاضر... قائلاً له:

منذ فجر قيام الدولة والتهديد بـ(الحرمان من الاستقرار) سلاح تتوعد به النظم المستبدة شعوبها المطالبة بالحرية، وتُخيفها بأن البديل لتلك الانظمة المستبدة هو الفوضى الدموية!

نحن ندرك أن الصاعق التفجيري الحاسم في تلك الصراعات الفتنوية هو التخلف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي فرضته (اللا أنظمة) المستبدة على شعوبها، وكذلك بسبب تعارض مطامع حكامها مع تطلعات شعوبها!

وليس من العدل أن يكون قدر الشعوب أن تختار:

أمَّا الاستبداد وأمّا الفوضى الدموية!

اعتدل (المحاضر) في جلسته...وراح يسرد صفحات من تاريخ (الحضارة!) التي تركها (الأسلاف)، وهو يؤشر إزاء كل (إنجاز حضاري!) اسم حاكم مستبد، ولم يشر "المحاضر" إلى أي (مَعْلَمْ حضاري) شاخص لَقَّنَتْهُ كتب التاريخ الرسمي للأجيال إلا ووراءه طاغية دموي!

نهضت فتاة سمراء كانت تجلس في الصف الأخير من مقاعد القاعة، وهَبَّ إليها شاب في مقتبل العمر مُقَدِماً لها الميكرفون، بعد أن تحدثت بضع كلمات لم يسمعها سوى الجالسين إلى جوارها...قائلة:

يا أستاذ...لقد استيقظ الإنسان الواعي الحُرِ من سكرة التضليل والأوهام الغيبية التي فرضها الاستبداد عليه، ولم تعد الشعوب (رعية!) والحكام (أولي الأمر!) ...

وتلك المعالم الحضارية التي أشرت إليها...هي من صنع بُناتِها المجهولين (المهندسين والعمال)، وليست شواخص لمن نسبت لهم من الحكام باطلاً...

مثل معظم أحداث التاريخ وشواهد الأزمنة التي تم تزييفها!

ونحن (مواطنون)...ندرك أن الحاكم هو مجرد موظف مكلف بخدمة المواطن ولفترة زمنية محدودة، وليس من حقه التسلط على مصير المواطن أو الاستبداد به وسرقة موارد وطنه!

عندها غادرتُ القاعة خلال وقت الاستراحة متوجهاً إلى وسط المدينة المكتظ بالمتسوقين والباعة والصحف الملوثة بأخبار الموت والخراب...حاملاً رأسي المصطخب بالتساؤل... لأكتب:

هل حقاً ...لا يَصلِحُ لبلادِ النَهرينِ إلاّ السُلطانُ الجائِرُ؟!

هل حقاً ما قال...

المسؤولٌ "العربيُّ" لمسؤولٍ "إفرنجيٍّ" في حَضرةِ أُذني:

إن عِراقاً شائِكٌ...

لا يُمسِكُهُ إلاّ ناطورٌ جائِرٌ...

أو تَتَناهَشُ فيهِ المُفتَرِساتُ!

أسْتَعرِضُ للضيفِ الإفرنجيِّ بإيجاز حائرٍ...

بعض صفحات الطُغيانِ السافرِ في أرضِ النَهرينِ:

(النُعمانُ) يُقَطِّعُ أعناقَ الشُعراءِ بيومِ النَحْسِ... (1)

(يَزيدٌ) يُذَبِحُ (ابن عَليٍّ) ظمآنا وعَشيرتِهِ... (2)

(الحَجاجُ) أقامَ صُروحاً شامِخةً للسُلطةِ مِن أجسادِ المُعتَرضينَ... (3)

(هولاكو) سَفَكَ الحبر. سيول دماءٍ غَطَّتْ دجلةَ... (4)

(كوكس).. أجهَضَ أفاقَ الثَورَةِ في عَقلِ الفلاحينَ بعامِ العشرينِ... (5)

(نوري) أنشأَ قَبراُ لخصومِ المُحتَلينَ بِصَحراءِ "السَلمانِ"... (6)

(صدامٌ) جَعلَ الموتَ بديلاً لصنوفِ حياةٍ!

****

واليوم تَداعى عَرشُ التاريخِ المُمْتَدِ من "الألواحِ الطينيةِ"...

في فجرِ التاريخِ...

إلى غزو الدبابات المحتلة للباب الشرقي...

لقَهرِ التاريخِ!

لأنَّ السلطانَ الجائِرَ تَغَيَّبَ قَسراً عَنْ بَلَدِ العُصيانِ...

قليلا في هذي الأيام!

فعاثَتْ في الناسِ صُنوفُ المُفتَرِساتِ!

****           

ونَسوا...

إنَّ القانونَ الأوَّلَ للإنسانِ العاقلِ قَبلَ الأربعَ آلافٍ من سنواتِ التاريخِ الصادِرِ "رُقُماً" في أرضِ بلادي...

يرفُضُ تَكبيلَ المُخطئِ في أقبيةِ الحَجزِ القَسريِّ... (7)

واليومُ تُمارسُ كُلُ الأنظمةِ المحكومةِ فوقَ الأرضِ سِلاحَ الكَبْتِ الدَمَويِّ وقطعَ الأعناقِ!

****           

في هذا الزَمنِ التَقَنيِّ الغارقِ بالإثمِ...

وسوادِ لصوصِ جهودِ المُبدِعِ...

وغيابِ الحِرصِ على العَقلِ...

نَقرأُ في "الرُقُمِ الطينيةِ" من بابلِ تَشريعاً:

"مَنْ يَمحو اسم المُنتِجِ ويُبَدِلُهُ باسمه...

يَمحوهُ – اوتو- من جَذرِه"! (8)

****

أما قِصةُ "ابنُ عليٍّ" و "يَزيد"...

فَتلكَ حكايةُ كُلِ الثُوّارِ بوَجهِ الطُغيانِ...

يَعرِفُها الإنسانُ الأولُ حينَ تَحدى غَزوَ المُفتَرِساتِ...

وجَورَ المُنتَهِكاتِ...

واليوم يواجِهُ فيها غَزو الدَباباتِ!

****           

نَخلٌ مُتشابكٌ في "أرضِ سوادٍ" مُثمرٍ...

اختار "المُقتَدرُ العبّاسيُّ" بهاءً مِنها لتكونَ صليباً للحلاّجِ...

واختارَ "الحلاجُ" الجِذعَ فناراً يُفقئ أعماقَ الظُلماتِ...

مازالَ المُقتدرُ العَباسيُّ شَتيمةَ عارٍ يَخجَلُ منها التاريخُ وأطفالُ بساتينِ الكَرخِ!

والحَلاجُ...شواظاً يوقِدُ أكوامَ الفِكرِ المُتَخَشِبِ!

****           

مازالت دجلةَ تَروي ظمَأَ الفُقراءِ...

رغمَ الحِبرِ المَسفوكِ بحورَ دماء. بسيوف مَغولِ الصحراءِ!

وتَنمو في شطآنِ النَهرِ حقولٌ...أزمنةٌ زاهرةٌ...أمَمٌ تَغرسُ شعراءً!

****           

وصروحُ “السَلمانِ" تَهاوَتْ بصتيتِ الفُقراءِ!

و"حروب الرَدَّةِ" فَضَحَتْ كُلَّ عيوبِ السُفَهاءِ!

جُثثٌ من قطعانِ الجهلِ المُتَوارثِ...

تَتَلَغَمُ بين فصولِ رياضِ الأطفالِ...

بحمايةِ جيشِ المُحتلينِ ووعّاظِ القَتلِ الجَمعي البُلَهاءِ!

تَتَناثَرُ بينَ الطُرقاتِ...

تَنفُثُ غَيماً أصفر...يَتَفَشى عِندَ أزوفِ الأزماتِ!

****

جَوقةُ أطفالٍ تَتَلاقى من أرجاءِ بلادي حَولَ رغيفِ التَنورِ الساخنِ والرطبِ "البَرحيِّ"...

بضيافةِ "نُصُبِ الحُريّةِ"...

تُدَوِّنُ عُشقاً...

فَوقَ شِفاهِ "الألواحِ الطينيةِ" في أرضِ النَهرينِ حكايةَ وَطَنٍ...

يَمحو:

دَنَسَ الأفكار المَوبوءَةِ بالجهلِ...

قناعَ الإسفلت الساخن عن وجه بلاد النهرين...  

"رطينَ" المُحتَلِ بأسواقِ "الزوراءِ"!

ويسري كالريحِ المشفوعةُ بالطَلعِ الخصب...

يَتَمَخَضُ عن فجرٍ مُشرقٍ بسواعدِ أبنائهِ!

 

  • النعمان: النعمان بن المنذر بن امرئ القيس اللخمي، من أشهر ملوك المناذرة في الجاهلية، وبنيت مدينة النعمانية على ضفة دجلة اليمنى في عهده، وصاحب يوم البؤس ويوم النعيم!

ملك الحيرة إرثا عن أبيه، سنة 582م، طلب منه (كسرى أبرويز) أن يزوجه ابنته فرفض النعمان، فما كان من كسرى إلا أن القى النعمان تحت أرجل الفيلة، فوطأته، فمات، وكانت هذه الحادثة هي الشرارة التي أدت لاشتعال الحرب بين العرب والفرس في (معركة ذي قار) والتي انتصر فيها العرب.

  • "يزيد" و"ابن علي": استشهد الإمام الحسين بن علي في كربلاء يوم العاشر من محرم سنة 61 هـجري المسمى عاشوراء في واقعة الطف، حيث قام بثورة ضد يزيد بن معاوية.
  • الحجاج: هو الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق في خلافة عبد الملك بن مروان الأموي. (40-95 هـ/660-714م).
  • هولاكو: هولاكو خان (1217 - 1265 م) هو حفيد جنكيز خان، يقال انه قتل 800,000 تقريبا من السكان“. أثناء غزو بغداد عام 1255 م.
  • بيرسي زخريا كوكس: جنرال بريطاني لأبوين يهوديين لعب دورا خطيرا في تاريخ العراق الحديث وتأسيس الدولة المشوهة وما تزال أثاره التدميرية تتفاعل إلى اليوم. أرسل إلى العراق عام 1920 لإجهاض الثورة.
  • نوري سعيد: رئيس وزراء العراق لفترات شبه متصلة منذ ثلاثينات القرن الماضي حتى ثورة 14 تموز 1958.
  • قانون اورنمو.. نص: (.. الأخذ بمبدأ الدية والتعويض بدلا من القصاص).
  • اوتو: قاضي السماء والأرض عند السومريين.