حكاية ونَص:

"ميسانُ" المَسْكونَةُ بالحرمانِ!

عندما عادني جراح القلب الدكتور (اسامة) في ساعة متأخرة من ليلة أمس بعد اجراء عملية كبيرة وعاجلة لوضع دعامات لشرايين القلب الذي اوشك أن يتوقف فجأة، في واحدة من نوباته التي كادت أن تهزمني... أوصاني الدكتور أن احاول النزول من السرير، والقيام بعدة خطوات حذرة على الأرض بمساعدة الممرضة...

كانت الممرضة الكهلة ضعيفة البنية هزيلة القوى، فلم اشأ الاتكاء عليها، بل حاولت أن اخطو بالاعتماد على ما بقي لي من قدرتي البدنية التي أصابها الوهن، لقطع المسافة على البلاط الصقيل بين السرير ونافذة الردهة...لكني فقدت توازني فجأة فهبت إلي الممرضة لمنعي من السقوط...فاستعنت بالجدار لحفظ توازني!

أثارت خطواتي المتعثرة الأولى على أرض الغربة حافياً في نفسي دفئ أرض (مدينة العمارة) مركز محافظة (ميسان) التي تعلمت على ترابها الحر أولى خطواتي بعد الحبو، وفي طفولتي حملت على أكتافي طينها الحر كـ (عامل بناء)، وتعلمت فوق أديمها:

إن "السراط الحر" يبدأ من كوخنا في (خرابة سعدة) إلى (مدرسة الأمير)!

وفي مراهقتي قطعت "درابينها" الترابية تائهاً...باحثاً عما لا أدري، كواحد من أهلها اللذين يمثلون بتنوعهم وتعايشهم كل أهل العراق...

وفي ستينات القرن الماضي كنا شباباً نلتقي على ذات التراب الحر... بعيدا عن هجير أكواخنا وبؤس أهلنا وعن عيون عسس السلطة، نبحث في أوراق (صفيحة زيت سرية) (1) عن أهل غابوا خلف ظلام السلطة!

كنا نحلم ...نسعى ليوم تكون فيه المدينة انطلاقاً من هذا البستان النضر الشجر والباسق النخيل واحة للحرية والتسامح والسياحة والثقافة والبهجة لأطفال المدينة المغدورة، وتكون مصدراً للرخاء لكل أهل العراق، مثلما هي على امتداد أطوار الحرمان كانت ومازالت منبعاً لهجرة الفقراء والمبدعين الى كل مدن العراق والعالم!

وهي (العمارة!) التي لم تعرف (العمارة الحقيقية) يوماً...رغم أنها تعوم على واحد من أكبر آبار النفط على كوكبنا، وسكانها ينحدرون من أعرق القبائل وأشدها بأساً على الغزاة والظالمين مثل كل أهل العراق... يشكون: من فقدان مختلف مقومات الحياة الحضرية المتمدنة، ومن شحة موارد الرزق، ومن التجهيل الممنهج، ومن تهميشهم وتجريح كرامتهم على ايدي اشباه الاقطاعيين المتسلطين المتخلفين المتعاقبين!

و"بستان الجدة" هذا.. تحول في اواخر الستينات من القرن الماضي إلى حي سكني.. ثم في مطلع السبعينيات دست فيه السلطة الدكتاتورية مخابئ للتعذيب ومقابر سرية تحت وفوق الأرض لأجهزة القمع لإشاعة الخوف في النفوس والفناء في العقول...تُرَوِعُ المدينة، وتُرْعِبُ أهل الحي الطيبين الذين استوطنوه.

في هذا النهار التشريني الساخن تمكنت من الوصول إلى شرفة الردهة في المستشفى، للاغتسال بضوء الشمس بعد أيام مديدة وثقيلة من الأسر بقيود السرير الغامض النوايا وتحذيرات الطبيب الشديد الحرص!

بغتة جاءني من علياء ذاكرتي زائر إلى عزلتي في ردهة المستشفى... صديق طفولتي (ريسان) ذلك الفتى المتألق الفطنة المفعم بالجرأة التي أوصلته إلى النهاية في (قصر النهاية) ... نِصفِيَّ الذي افتقده في صحوي ومنامي...صديقي الذي كنا فيه نجول معاً حُفاةً عند سور المقبرة، في خمسينيات القرن الماضي نبحث عن فك طلاسم غامضة وأسرار مبهمة عن الحياة وعن المدينة وأهلها...ولاكتشاف أنفسنا... فكتبت إليه رسالة عن:

"ميسانُ" المَسْكونَةُ بالحرمانِ!

تَنْزَلِقُ العصورُ من قرارةِ البراكينِ إلى صدري!

تَضيقُ المسافاتُ بين الظلمةِ...والفكرةِ!

يتهاوى الهلالُ إلى مقلةِ القتيلِ على الرصيفِ!

تَنْفَقُ الموجةُ على اللسانِ الرمليِّ الظامئ...

تولَدُ الاشياءُ في حبةِ الرملِ!

تَنْفَرِطُ الأحلامُ بين الأصابعِ!

تَزيغُ العيونُ عن العيونِ من فَرْطِ الغَيْظِ!

تَتَدَلى الكلماتُ من أعوادِ المشانقِ إلى المسامعِ الصُمِّ في شَهْقَةِ الموتِ!

يَتَّسِعُ القَبْرُ فَيُمْسي عُمْراً!

تَسْتَوطِنُ الجَفْوَةُ في الزهورِ!

تَنام المَساميرُ في الضلوعِ...

يُوقِظُها الوَجَعُ!

أستَحيلُ رُفاتاً في جسدي...

يأخُذُني الجَسَدُ المَيِّتُ للُنُزْهَةِ في الوديانِ المهجورةِ...

يَعْرِفُني الغُرَباءُ على أبوابِ المَسْلَخِ...

أنْدِبُ فيهم طِفلاً لا أعْرِفَهُ...

يأتيني القومُ بِعَصْفَةِ جَوْرٍ...

أُحْبِطُها بِصَريرِ الحَرفِ المعلولِ!

****

ساوَرَني شَكٌ...

إنَّ دَليلي للغَيْمَةِ بَعْضُ حُروفٍ خرساءْ!

****

يا تِلْكَ اللَّيْلَةَ في "ميسان" انْدَثري...

أو...

فَلِيَصْعَدَ للهامةِ طُغيانُ الرفضِ!

ما كان الحائطُ يَبْكي حينَ استَلَبَ الحُكّامُ وجاهَتَهُ...

بَلْ كانَ الصَخْرُ المارقُ من مقبرةِ الفقراءِ يُرَنِّمُ في الدربِ إلى دورِ المَيْسورين!

والصمتُ القارسُ بين الحائطِ والمَبْكى...

هُمْ أهلي...

وصَفيرُ الريحِ بأجداثِ الموتى...

أحلامي!

ما فَتِئَتْ أمي تَمْنَعُني عَنْ نَفْخِ الريحِ بموقدِ جارَتِنا...

كَيْ لا تَمْتَد النارُ الى أكفان الموتى!

لكِنَّ الجَمْرَ الكامنَ في روحي يسري كالحُمّى في فَجْرِ الصبيانِ العريانين!

أمْسِكُ أطرافَ التَنورِ الأخرسِ...

أبحثُ عن "قرصةَ" خُبْزٍ تُؤيني من جوعي...ورفاقي!

أمضي الصحوةَ مرصوفاً لِشَخيرِ التيسِ الأهبل...

والناسُ نيامٌ!

****

تَنْمو كُلُّ الأشياءِ بهذا الكَونِ...

إلاّ مَيْسان المَسكونَةُ بالحرمانِ!

****

باءَت كُلُّ ألاعيبِ الفِطْنَةِ بالإخفاقِ...

فالغَوْرُ عميقٌ...

والنارُ تُكَبِّلُ حقلَ القمحِ...

والفكرةُ مازالتْ تُذبحُ في "بِسْتان الجِدَّه"! (2)

صَوتُ الطَبّالِ الفاتنِ يَجْتازُ الطرقات...

والنُسْوَةُ يَجْمَعْنَ الروثَ بأعقابِ "الجيشِ المنصورِ"!

يا هذا الجيش المُمْتَدِ من "الحجاجِ الأولِ"...

لفتوحاتِ السياراتِ الملغومةِ بـ "البابِ الشرقيِّ"...

ما كَلَّتْ يُمْناكَ؟!

أما زالَتْ فيكَ ظُنونٌ...أن "ألعالمَ" مَحْضُ نَحائِر لسيوفك؟!

****

تَبّاً لفرائصَ أهْلي الما كَسَرَتْ نَصْلَ سُيوفِ الظُلْمَةِ والمُحْتلينَ!

  1. فصل من رواية (ذاكرة التراب)

  2. "بِستان الجدة": واحدة من أجمل مناطق "مدينة العمارة" مركز محافظة ميسان المطلة على نهر دجلة وتجري في عروقها انهار: المشرح، والكحلاء، والمجر الكبير، والمجر الصغير، والميمونة (وأهلها ظامئون للماء والحرية)!