كان الضجيج في الصالة لا يطاق، والعرق في الظهيرة اللاهبة من صيف بغداد ينزّ من المسامات. الجميع يتحدث وينظر بين الفينة والاخرى الى الساعة المعلقة على الجدار بانتظار عودة التيار الكهربائي. المكان يبدو لسلمان مألوفا بعض الشيء، فلم يتغير شيئا به منذ ان تركه قبل حوالي ربع قرن من الزمان. كانت الفرحة الممزوجة بالضيق من الحر ترتسم على وجوه الحاضرين، وكان سلمان ما زال يفكر بصبر المحجبات اللواتي يجلسن في الصالة. كان الحاضرون يمطروه بسيل من الاسئلة والتي كانت تتكرر بين الحين والاخر. الاطفال يتسابقون للجلوس بالقرب منه وهو يحاول جاهدا مسايرة الجميع.

حول عينيه نحو الساعة المعلقة، وكانت تشير الى الثالثة ظهرا حين سأل :

-  متى تعود الكهرباء ؟

-  الساعة الرابعة .اجابه عدد من الحاضرين وانظارهم تتجه نحو الساعة المعلقة.

انسلّ سلمان من بين الحاضرين وتوجه نحو الممر، ومنه الى سطح البيت صاعدا السلالم بطفرات متلاحقة، وصار يلهث بشدة حين وصل الى السطح. توقف عند الجدار وهو يتفحص المكان. ذهبت عيناه نحو برميل الماء العالي، ثم راح ينظر للشوارع وبيوت الجيران. كانت الشمس تملأ الكون، والسماء خالية من الحمامات. خلع سلمان قميصه، طواه ووضعه على الارض ثم جلس عليه. تطلع نحو برميل الماء وتمنى لو يستطيع السباحة به مثلما كان يفعل عندما كان صغيرا. توجه نحو الجدار وصار يتلصص على اسطح الجيران الخالية من كل شيء.

حين مرّ في الشارع لاول مرة لم يشعر احد بوجوده سوى بعض نظرات الواقفين في الشارع والتي كانت مملوءة بالشك. لقد عرف سلمان البيوت، لكنه لم يعرف نظرات الشك في العيون. اقترب من برميل الماء المرتفع وتفحص الظل الازلي الذي كان تحت البرميل. شعر سلمان انه يعرف هذا الظل بل ان هذا الظل هو جزء منه. تسمرت قدماه في هذا المكان عندما حطت حمامة فوق البرميل، دارت الحمامة حول نفسها دورتين ثم طارت وحطت على الارض، وبعدها توجهت نحو ظل البرميل وراحت تنظر الى سلمان بتمعن.

راحت الحمامة تتفحصه بعيونها، لايبدو عليها الخوف منه، كانت نظراتها تشير بانها تعرفه او انها تعرفت عليه. كان سلمان لايزال متسمرا في مكانه وهو يتطلع الى الحمامة، كان يريد ان يحدثها، ان يقترب منها، ان يمسد لها ريشها، ان يخطفها. طارت الحمامة نحو بيت الجيران وهي لاتزال تنظر باتجاه سلمان الذي لبس قميصه ونزل الى الصالة!.