اعتدت أن امضي لحظات الغبش فجر كل يوم جمعة جالساً فوق صخرة على الساحل الرملي للبحر... اتأمل تحولات زرقته الداكنة إلى الفيروزي المشوب بخيط الشفق الأرجواني... لكني فوجئت ذلك اليوم بِمَدٍّ بحري يرافقه هدير موج أحمر غَمَرَ الشاطئ، حتى تجاوز نقطة جلوسي، فنفرت هارباً نحو اليابسة!

عندما غيض الماء كان الساحل الرملي قد تحول إلى مكب نفايات تجشأها البحر من أعماقه، وألقاها على اليابسة!

تطلعت إلى أكوام الحيوانات البحرية النافقة، وحطام السفن الغارقة، وما لفظه البحر من قرارته، للحفاظ على حيويته ونقائه!

لكن كيساً بلاستيكياً شفافاً قذفه الموج بعيداً عن النفايات حتى استقر على ساحل الرمل الندي، لفت انتباهي فانحنيت عليه، وأخرجت ما فيه من لفافة قماش مهترئة مبللة طويت بعناية حول جواز سفر منقوع بماء البحر، وصورة طفلة ضاحكة شاهرة القواطع السفلية اللبنية لأسنانها!

تصفحت أوراق جواز السفر بحذر كي لا يتمزق الورق المهترئ بالماء، كانت الصورة لشاب في الثلاثين من العمر، اسمه (..................)، وزوجته (...........) ومهنته مهندس معماري من مدينة (..............)، من قرية على ضفاف نهر ظامئ...كانت ملامحه صارمة، وعيونه يقظة، وشفاهه مزمومه كأنه التقط الصورة عُنْوَّةً، وفي داخل جواز السفر ورقة نضح حبرها فلوث صفحات الجواز، لم يبق منها إلا الأرقام الثلاثة الأولى لهاتف نقال!

أخرجت الورقة بأطراف أصابعي بحذر كي لا تتمزق، ووضعتها على الرمل اليابس تحت أشعة الشمس إلى جانب جواز السفر ووجه الطفلة الرضيعة الغارقة بالضحك، وعندما لوّحتها الشمس، كشفت عن بعض الحروف في ذيل الرسالة التي كتبت بلغة مقصودة الغموض!

عندما حدقت بها جيداً، تهجيتها...ظهر من أسلوب بناء النص أنها رسالة كان يحملها (المسافر الغريق!) معه إلى جهة يقصدها كانت بانتظاره!

شعرت بانقباض روحي، وانا اتخيل الرضيعة مختنقة بالبكاء في حضن أمها، الواقفة ناشجة حافية ينتهشها الحزن، وقد أوهنها الانتظار الطويل، على ضفاف النهر، تتطلع إلى السماء داعية أن يأتيها خبر من المجهول عن المصير المجهول لزوجها، والناس من حولها تمضي في شؤونها مثلما الحياة لا تلتفت، لمن يرحل عنها، أو يغرق في الطريق إلى شاطئ الخلاص!

وضعت إرث الشاب الغريق بين أوراقي وقررت أن التقي صديقي (أبو عمّار) في المساء لفك طلاسم الرسالة...

اصطخب هدير الموج وتعالى نعيق النوارس مُشَيَّعَةً الراقدين في أعماق البحر والمنجرفين منهم إلى الساحل الرملي!

حملتني زفرات صباح الغربة الثقيلة الرطوبة منقبض الروح لاجئاً إلى شطآن دجلة التي ما برحت تستوطن فيَّ!

وقبل أن يَشِقُّ قرن الشمس الأفق... عدت إلى صخرتي اكتب:

كَفّي سارِحَةٌ فَوقَ جَبينِ الفَجرِ!

ذاتَ مساءٍ كُنتُ وحيداً بجوارِ لسان بحري...

أجمَعُ غَيماً يتثاءبُ فوقَ رُموشِ العُشُبِ المُبْكِرِ ...

طافَتْ كَفّي فوقَ جَبينِ الصُبحِ الباردِ ...

تَعِبَتْ من أهوالِ الرحلةِ ...

رَقَدتْ بجواري سارِحَةً ...

والضوءُ المتكاسلُ يَغفو مُنشَرِحاً فيها ...

يَتساقطُ قَطَرٌ مخمورٌ في راحَتِها ...

يَسبحُ في الوديانِ المُكتَظَّةِ بالجِنِّ ...

ترمُقُهُ غاباتُ النخلِ ...

يمورُ بريقٌ سحريٌّ منها فوقَ شفاهِ "الطالِعِ" ...

يَتَهَجّاهُ الجِنُّ الأرقطُ ...

يَخفِقُ في فكِّ رُموزهِ ...

يَقرأهُ الطيرُ الجانِحُ فوقَ خدودِ الشَفَقِ المُبْهرِ ...

يَتَرَنَّمُ والصُبحُ!

****           

يُزَقزِقُ في أُذنِ الرَطَبِ:

اغسِلْ وَجهكَ بالفجرِ ...

أقلِعْ صَمتكَ للإبحارِ ...

أطلق روحكَ للعودةِ صوبَ شهيقِ "الكحلاءِ" (1)!

يَتَمَلْمَلُ في كفّي طالِعُها ...

تأخذُهُ الطيرُ إلى أعشاشِ الكَلِمِ الطَيِّبِ ...

يلثُمُ رأسَ العصفورِ المُثقل بغبارِ الطَلْعِ الكامِنِ في مِفرَقِ “بَرحيَّةٍ" (2) ...

يَفتحُ عيناهُ الوَسنانةُ ...

يَتَقَلَبُ ...

يَصفِقُ أجنحةً ...

زُغُباً ...

مُثقلَةً بهشيمِ الليّلِ!

يَسمو ...

تَحملُهُ الريحُ وأنفاسُ “الطالعِ"!

تَصحو كَفّي مِنْ غَفوَتِها ...

تُوقِظُني ...

أنْ نَجمعَ محصولَ الغَيمِ ونَقصُدَ قفراءِ الفِكْرِ المُتَصَحِرِ فينا ...

نَسري قافلةً ...تَتَعاظَمُ مثلَ:

شروقِ الشَمسِ ...

الغيمِ ...

قَطيعِ الجِنِّ ...

أسرابِ الطيرِ ...

حقولِ الحنطةِ ...

غُبارِ الطَلْعِ ...

رموشِ العُشْبِ ...

الطالِعِ ...

الطين "الحِريُّ"!

كَفّي...

أقرانُ "البَرحيَّةِ" ...

نُنْشِدُ في مرحٍ ...

أغنيةَ "اللَيلِ المُتَبَدِدِ في أنفاسِ الصُبْحِ"!!

  • الكحلاء: مدينة فلاحية عراقية من مدن (الماء والسماء)
  • البرحية: نوع من نخيل التمور العراقية.