في قرية منزوية بين الجبال حيث لا شرطة انضباط تلاحقه، كان الجندي الهارب يتكيء على وسادة مُسندة الى الجدار، ممدداً قدميه بأسترخاء ليزيل ماتبقى من التوترات العصبية والعضلية التي كان يعاني منها على خطوط الجبهة لأشهر عديدة، بالرغم من أنه لم يشارك في المعارك كمقاتل، فقد خدمته مهنته كسائق جرّافة " شفل" حيث كان يُكلَف بأعمال حفر الخنادق أو شقّ الطرق الترابية لمرور العربات العسكرية، فقد هوت أمام آلته الجبارة المئات من أشجار النخيل ودمر أراضي زراعية شاسعة تنفيذاً لأوامر العسكر الصارمة.

كان يتحدث بلغة عربية ذات لكنة خفيفة، ليستمع اليه أهله وضيفان من الانصار* بأندهاش واضح. اخرج من جيب سرواله مسبحةً بنية اللون، ليبدأ بتحريك حباتها فتصطدم ببعضها وتصدر صوت طقطقة خفيفة تتناغم وصوته الحزين، كان ضوء المصباح الزيتي يترك على وجهه آثار انفجارات قنابل من بعيد.

جاءته الاوامر ليتحرك نحو الخطوط الامامية، ويحفر مقبرة جماعية للجثث المتناثرة على خط الجبهة بعد معركة شرسة دامت لعدة ساعات، كان قرار القيادة عدم تسليم الجثث لأهلها خوفا من انتشار الرعب والغضب بين الناس والجنود.

جلس خلف المقود وضغط على زرّ ليدير المحرك، بدأت الجرّافة ترتعش وهي تزمجر ليطغي صوتها على أصوات الجنود الذين لايكفّون عن الحركة في باحة الموقع، وهم ينقلون العتاد والتموين وأشياء اخرى. إنطلقت الجرّافة على الشارع الترابي بحركة بطيئة حذرة، كانت الحفر التي خلفتها القنابل والصواريخ ترسم خارطة منخورةً للمكان، لاتزال رائحة البارود تُغلف جزيئات الهواء المحصورة بين بقايا الآليات المحطمة المنثورة على جانبي الطريق. بدأت الصورة المأساوية تقترب من عينيه، جثث ممزقه تمددت وتكورت بشكل افقي مع امتداد الخنادق القتالية، رؤوس، أذرع، اقدام تَركت اصحابها بلا عنوان، تربة اصطبغت بلون احمر قانٍ تشوهه كتل الذباب، رائحة انتشرت تمزق الحواس، إبتعد كلب يحمل بين اسنانه كفاً إلتمع على احد اصابعها خاتم ذهبي. شعر بألم في بطنه ورغبة في التقيؤ، فكر بالعودة ولكن مشاهد فرق الاعدام اثنته عن ذلك، غرس مقدمة الماكنة في الارض ليبدأ مراسيم الدفن بلا دفّان، رفع كتل الأجساد ليلقي بها الى الحفرة، كرّر العملية وهو اقرب الى حالة الاغماء، ليستفيق على صرخة واهنة جاءته من مقدمة الماكنة:

ـ الله يخليك لا تدفنني...!

قفز من خلف المقود ليشاهد جسداً ممزقاً فوق الركام المكدس في الرافعة ينظر اليه بعينين متوسلتين، خَفُتَ فيهما بريق الحياة.

هرول نحو الموقع ليخبر الضابط ، عسى ان يرسل مجموعة لنقل الجريح.

ـ ادفنه معهم فلسنا بحاجة الى معوقين. قال الضابط بحزم.

كانت قدماه تجرجره بتثاقل نحو الماكنة الهمجية، الشمس خلف ظهره بدأت تنغرز في رمال صحراء الزبير، سحب عتلة لتهوي الأجساد مع الانين الى قعر الحفرة، لم يستطع دفن المشهد في قبر الذاكرة،

بريق الذهب في كف زوجته يحمله بلا وعي الى المقبرة.

.............................

عبد الرضا المادح

ستوكهولم

31/01/2007

* الانصار ـ  مقاتلي الحزب الشيوعي العراقي ضد نظام البعث في شمال العراق.