قلتُ لـ(ذي القُروح)، وأنا أناقشه:

ـ ما يفتأ صاحبك (القبَّانجي) يردِّد الادِّعاء البلاغي وتمييز الأساليب.

ـ ما عرضتَه عليَّ من كلامه لا يدلُّ على أنه من أهل البلاغة في شيء- إلَّا لدَى مَن لا يُفرِّق بين البلاغة والبلاهة- ولا مِن الجديرين بالتفريق بين مستقيم الأساليب ومُعْوَجِّها في قليل ولا كثير، ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه، وأخذَ من البلاغة ببلاغة السكوت.

ـ وما بلاغة السكوت؟

ـ يروي (الجاحظ)(1) عن (ابن المقفع) في أنواع البلاغة قائلًا: «لم يفسِّر البلاغة تفسيرَ ابن المقفع أحدٌ قط. سُئل ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسمٌ جامعٌ لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة. فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابًا، ومنها ما يكون ابتداءً، ومنها ما يكون شِعرًا، ومنها ما يكون سَجْعًا وخُطَبًا، ومنها ما يكون رسائل. فعامَّة ما يكون من هذه الأبواب (الوَحْي فيها)، و(الإشارة إلى المعنى)، و(الإيجاز)، هو البلاغة.» 

ـ صاحبك- في هذا المخاض- لا يفضِّل بلاغة السكوت الذهبي، بل سأبغتك بمذهبه الغريب.  هو يفضِّل «نهج البلاغة»، المنسوب (لعليٍّ، كرَّم الله وجهه)، على «القرآن الكريم» في البلاغة! 

ـ عجيب.. إلى هذا الحدِّ بلغ ضغط العمامة؟!

ـ نعم، هكذا يرى وكذلك يعتقد، أو قل: هكذا يريد أن يحتجَّ لتسويغ دعواه، وكذلك يشاء المقارنة الجائرة بين النصَّين. 

ـ شتَّان شتَّان!  على كلِّ حال، هذا يؤكِّد مقدار وعي هذا الرجل بالبلاغة! ويدلُّ على ما وراء هذا التفضيل أصلًا، لدَى القائلين به. ويُنبئ عن ذاك (الما وراء)، لدَى الشغوفين به مذهبيًّا، أن ترى أحدهم يستظهر تلك الخُطَب الطنَّانة، في غير كَلَلٍ ولا سأم، حتى «يُبَلْبِلَ بها الأسماعَ بَلْبَلَة، ويُغَرْبِلَها غَرْبَلَة»، حتى إذا قرأ آيةً من «القرآن» تلجلجَ واضطربَ، ولحَنَ وأخطأَ الصواب!  ويلزم هنا إيضاح مغالطةٍ شائعة، لدَى الملحدين، ولدَى الطاعنين في «القرآن» عمومًا، لأسباب اعتقادية أو فكريَّة أو لغير ذلك.  وهي قياس النصِّ القرآني على النصوص الأدبيَّة.  ولئن كان «القرآن» نصًّا رائع الأدبيَّة، فليست بغايته الوظيفة الأدبيَّة، ولا بوظيفته التأثير الجمالي، ولا الإدهاش البلاغي فحسب، بل هو- قبل ذلك وبعده وفي أثنائه- كتاب عقيدةٍ وتشريع.  ونصوص العقائد والتشريعات كثيرًا ما تقتضي التفصيل، والتدقيق، والشمول؛ تلافيًا لما يُعرَف بالثغرات القانونيَّة.  وهذا النهج معروف في عصرنا في إعداد نصوص الأنظمة والقوانين وصياغتها، حيث تلحظ أنها لا بُدَّ أن تَنُصَّ على أدق التفاصيل- التي قد يرى كثيرون أنها تحصيل حاصل، أو مفهومة بالضرورة- وتُسهِب في تعديد أشياء، ربما رأى بادي الرأي أن ذِكرها بلا معنى. 

ـ كلامك هذا يَردُّ على بعض الظرفاء، أو المتظارفين، الذين يقفون متسائلين، مثلًا، أمام التفصيل في آيات قرآنيَّة، كما في (سُورة النُّور): «لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ، وَلَا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلَا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ، وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ، أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ، أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ، أَوْ صَدِيقِكُمْ؛ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا. فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا، فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ، تَحِيَّةً مِنْ عِندِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.»

ـ الحُكم على النصِّ فرعٌ عن الوعي بطبيعته ووظيفته.  أمَّا حين يكون وراء الحُكم غَرَض، فلا سبيل حينئذٍ إلى الحِجاج.

ـ وتَلحظ في هذا السياق أن الذين توقَّفوا عند تحدِّي «القرآن» للإتيان بمثله، إنما يلتفتون إلى الجانب البلاغي من المسألة فقط. 

ـ يفعلون ذلك منذ (مسيلمة الكذَّاب) إلى آخر الكذَّابين.  مع أن التحدِّي في «القرآن» لم ينصَّ على التحدِّي البلاغي تحديدًا، وإنَّما جاء تحدِّيًا مفتوحًا للإتيان بـ«مثله» بصفةٍ عامَّة؛ ولم يقُل: «بمثله بلاغةً»، أو «بمثله جمال نصٍّ». 

ـ وإنْ كان هذا رأس التحدِّي لأُمَّة اللَّسَن والبيان، وأسواق الشِّعر والخطابة.

ـ أكبر الآيات المتحدِّية للإتيان بمثله، هي: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ، لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا.» (سُورة الإسراء).  أمَّا التحدِّي بالسُّورة، أو العشر سُوَر، فكان تدرُّجًا في التحدِّي للمشركين.  والثابت تاريخيًّا أن التحدِّي قد ظلَّ قائمًا، يقرع الأسماع، والرِّهان قد بقي مرفوعًا في الوجوه. والثابت تاريخيًّا كذلك أنَّه لم يستجب للتحدِّي من أحد، ولو جَدَلًا، وأنَّ المحاولات التعيسة، التي جرت على مرِّ العصور، قد جاءت أضحوكة للعالَمين، هزيلةً وهزليَّةً جِدًّا، حتى في المستوى البنائي. 

ـ وليست في حاجةٍ إلى شهداء لإثبات أنها ليست بمثل النصِّ القرآني، حتى في المستوى البنائي، فضلًا عن غيره من المستويات. 

ـ على حين قال الواهمون إنه إنَّما صُرِف الناس عن الإتيان بمثله، وإلَّا فالإتيان بمثله ممكنٌ جائز!  وتالله، لقد اقترف هؤلاء الواهمون بقولهم هذا فِرْيَةً على النصِّ وعلى الناس في آن، من وجوه.  فمن الوجه الأوَّل، سيقال: ما حُجَّة المحتجِّ بإعجازٍ قد صُرِف الناس عنه؟!  ثمَّ هي فِرْيَةٌ على الناس، من وجهٍ آخَر- مع أنها ما كانت لتسوغ لدَى الملاحدة منهم، ممَّن لا يؤمنون بوجود الله أساسًا، فضلًا عن حكاية الصَّرْفة تلك- فالناس لم يأتوا بمثله، مع حرص بعضهم الشديد على ذلك. 

ـ إذن، ترى أنَّ التحدِّي القرآني لم يكن في مستوى المبنى وحده، بل هو في المعنى أيضًا. 

ـ أجل، ليس إعجازًا بلاغيًّا فحسب، بل هو إلى ذلك إعجاز في المحتوى الدلالي، المشتمل على قضايا لم تجتمع في كتاب من قبل ولا من بعد.  فمَن يعرف اليوم في العالم كتابًا، بأيَّة لغةٍ من اللغات، يضم بين دفتَيه قضايا الخلق، والحياة، والبعث، والعبادات، والمعاملات، وقضايا الإنسان، والمجتمع، وقَصص الأُمم، والكون، والدنيا، والآخرة، مع ما ينطوي تحت هذا كُلِّه ممَّا لا يُحصَى من مضامين وإشارات لا تنضَب، مَن يعرف كتابًا يشمل ذلك في كتابٍ واحدٍ غير «القرآن»، فليأتِ به؟ 

ـ وهو كتابٌ ليس بالكبير الحجم. 

ـ هل هناك من كتابٍ آخَر يتوافر على كلِّ ذلك عدا «القرآن»؟!  ثمَّ إنَّه ليس من كتابٍ سِواه من العُمق والشمول بحيث لا يكاد يخطر في الذهن سؤال، في أيِّ زمان أو مكان، إلَّا وجدتَ عنه إشارة لافتة في «القرآن». 

ـ ربما اتهمك هؤلاء بالمغالاة عن عاطفةٍ دينيَّة، لا أكثر!

ـ وما أبرِّئ نفسي من العواطف، لكنَّني هنا أطرح الأسئلة بتجرُّد، فمن وجد إجابة- مجرَّدة من العواطف- فليُجِب!  هذا الكتاب الذي جاء في غضون عشرين سنة فقط، كانت مخاضًا رهيبًا من المواجهات والحروب، والحصار والتهجير، والقلق والاضطرابات، على يدَي رجلٍ أُمِّي، هو أمرٌ غير متصوَّر.  ولقد كان (محمَّدٌ، عليه الصَّلاة والسلام) أُمِّيًّا بالفعل، لا بالتأوُّل، كما يزعم بعض الزاعمين. 

ـ ما دليلك؟

ـ تَدُلُّ على هذا طرائق حفظ «القرآن» نفسه، وروايته، وجمعه، وترتيبه. ولو كان الرجل يقرأ ويكتب، بل لو كان يأخذ بهذه الآليَّة الكتابيَّة، مذ أوَّل يوم، بصورةٍ منتظمةٍ منضبطة ، لما استدعى الأمر تلك الرحلة الشفاهيَّة الشاقَّة حتى استقرَّ النصُّ في (مصحف عثمان). 

ـ ولقد جاء هذا الكتاب في نهايات حياة (محمَّد)، وإبَّان كهولته، القلقة، ودعوته الثوريَّة، المضطرمة بالتحدِّيات الوجوديَّة، له وللعَرَب جميعًا. 

ـ بقطع النظر عن الظروف، ما كان ليتسنَّى أن يأتي بمثله فريقُ بحثٍ كاملٌ، متفرغٌ شابٌّ. دع عنك أن يأتي بمثله طالب دكتوراه ممتاز، مثلًا، أو فيلسوف، منصرف تمامًا للإتيان بمثله، وإن افتُرض أنَّ هذا أو أولئك بعيدون بالكلِّيَّة عن تلك الظروف الوجوديَّة التي كانت محدقة بمحمَّد في أدقِّ تفاصيل حياته وأجلِّها.  فمن كان لديه كتاب، إلى اليوم، بمثل تلك المواصفات، فليدلَّنا عليه.  فلئن لم تكن تلك معجزة، فما الإعجاز؟!  المحاكمة المنطقيَّة، إذن، وبغضِّ النظر عن الإيمان، تحكم بالإعجازيَّة في الأمر.  بيد أن الإعجاز ليس في نصوصيَّة النصِّ، فقط، كما تقدَّم القول، كي تُقارن سُورة بخطبة، أو سُورة بقصيدة، من حيث البناء البلاغي.  فذلك هو الغِلاط في الحِجاج.

وأمَّا «نهج البلاغة»، فما «نهج البلاغة»؟  تلك قِصَّة أخرى، نقصَّها معًا في المساق التالي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  (1998)، البيان والتبيين، تحقيق: عبدالسلام محمَّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 115- 116.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.