عندما يقرأ أحدنا مِمَنْ عاش.. ولو نتفاً من حياته.. في صفوف الأنصار.. كتاب.. أيّ كتاب.. لنصير سابق.. ويتذكر تلك الأيام القاسية.. وما رافقها من مخاطر جدية وحرمان دائم.. ولو حددنا هذا الحرمان فقط.. بما له علاقة بالثقافة والكتابة.. وصعوبة الحصول على الأوراق والاقلام.. ناهيك عن الكتب وتفرعاتها من قصص وروايات وشعر وأدب.. مروراً بالفلسفة والاقتصاد وغيرها من أصناف الكتابة والإبداع "للبطرانين".. والفرص النادرة المتاحة للنشاط الثقافي والمعرفي.. لا يستطيع أن يكون هذا القارئ حيادياً.. وحتماً سيكون مجاملاً في تقييمه للنص المقروء.. 

ومع هذا ـ هذه المجاملات انْ كانت موجودة فعلاً عند البعض ـ فنصيب الكتاب الأنصار بالأسماء والعدد الكبير منهم.. ومع حجم نتاجاتهم المختلفة.. أصبح اليوم.. ضمن المعادلات التي لا يستهان بها.. وتشكل محوراً مهماً من محاور الثقافة والمعرفة العراقية.. بشتى تسمياتها ومكوناتها.. منذ أكثر من ثلاث عقود من الزمن.. وما قبلها قليلاً..

وانْ كانت بعض الأسماء قد شقت طريقها قبل هذا الزمن.. بحكم عمل البعض من المثقفين الشيوعيين العراقيين واصدقائهم واليساريين في المؤسسات الإعلامية للمقاومة الفلسطينية.. ومع الأحزاب والتيارات التقدمية في لبنان وبلاد الشام.. التي افسحت المجال للمطاردين من قبل النظام الدكتاتوري.. والناجين من مقاصل حزب البعث الفاشي واجهزته القمعية للعمل في العديد من الصحف والمجلات التي انضم لأسر تحريرها العديد منهم في فترات مختلفة بأسمائهم الصريحة والحركية وفقاً لأوضاعهم الشخصية..

وما زلنا نشهد اتساع هذه الظاهرة وانضمام الكثير من الأسماء الانصارية لشريحة المبدعين.. ممن قرروا الاستفادة من التراكم المعرفي والثقافي وخبرة حياتهم.. ليدونوا جزء منها.. من خلال مذكراتهم ونصوصهم.. مع احتفاظهم بتواضعهم وصفاتهم المهنية.. لـ "يفاجئونا" بأعمالهم.. كأنهم ما زالوا يمارسون لعبة من لعب الأنصار..

وهذا ما فعله النصير (أبو حسنه ـ مازن الحسوني).. من مفرزة الطريق.. في كتابه الذي حمل عنوان.. (الخيار الآخر).. بعدد صفحات وصلت الى 455 صفحة.. الذي وصلني منه نسخة اهداء.. قبل ثلاث أيام فقط..

وبدأت بقراءته على دفعتين.. خلال يومين متتالين.. بحكم ما فيه من مغريات تشد القاري.. لمتابعة الاحداث والفصول التي تكون منها "النص الحسوني".. الذي قرر عدم وضع تسمية محددة له.. واكتفى بتعبير (الخيار الآخر) فقط كعنوان مكرساً كل جهده للحدث الأكبر.. الذي تلتف حوله حزمة من الاحداث المتشابكة والمتسلسلة.. تجعلك في كنف مشاهد وفصول درامية متميزة ومتعاقبة.. محبوكة بطريقة مدهشة.. تنقلك لتعيش في زمن قراءتك للنص في أجواء رواية..

هي ليست رواية عادية بكل المقاييس.. فالنص يستند لتجربة واقعية بحدود الزمان والمكان.. ابتداء من البصرة.. وما له علاقة بصبا الكاتب (هو في الرواية حمل اسم باسم) ومروراً بالجامعة والانتقال للاختفاء ومن ثم مغادرة البلد.. ولا اسميه وطناً.. بسبب القمع "ليستقر" متحركاً ومشياً على الاقدام في مثلث الحدود.. بين العراق وتركيا وسوريا.. حاملاً راية الثورة والكفاح.. ويلجأ مع رفاقه لمحطات.. هي إما كهوف ومغارات في شعاب وقمم الجبال.. أو بيوت سرية معبأة بالسلاح والذخيرة في القامشلي.. التي أصبحت محطة توريد رئيسية للثوار الأنصار.. تفرض على القائمين فيها.. اللجوء الى السرية التامة في الحركة.. وتبديل الاسماء وغيرها من مستلزمات وضوابط العمل السري.. ستكون لها حصة كبيرة في سلسلة الاحداث.. بحكم ارتباطه العاطفي بفتاة كردية (هي ليلى في الرواية) كان المكان يجمع بينهم كجيران أية حارة في أي بلد شرقي.. لكنهم هنا في هذا الركن من القامشلي الجيران.. جيران عائلة ليلى.. هم أبناء العراق المتواجدون في المحطة الأنصارية السرية لهم.. التي قرر مازن تدوين جزء من صفحاتها.. بعد أكثر من أربعة عقود من الزمن مرت عليها.. كشاهد وراوي ينطلق في سرده من ركن في ذلك الدار ليحلق في أجواء ستوكهولم.. التي وصلها لاجئاً بعد انْ ترك وخسر مشروع "زواج فاشل" من حبيبته القامشلية في أجواء دمشق الرسمية.. بسبب اعتراض الأب المؤمن.. ورفضه لقبول الامر الواقع المفروض عليه من بنته وجاره النصير العراقي..

لكنه لم يستسلم لبقية فصول العبث بحياة حبيبته.. قرر بعد أول اتصال بينهم في أجواء الغربة في بلغاريا وهو في السويد.. معالجة الموقف.. والدخول في معمعة الوجدان.. والخضوع لمؤشر الروح الإنسانية المنتفضة والمتمردة.. التي لا تستسلم للعواصف والرياح.. ولا للمؤامرات والصعوبات.. وتكافح لتتمسك بقيمها بإصرار..

ترفض الرضوخ للانكسار وخسارة المعركة والخنوع للطرف الآخر.. متشبثاً ببقايا أمل.. بقايا حلول ممكنة.. حتى ان تطلبت المغامرة.. والتيقن اللامحدود من إمكانية الوصول للهدف والانتقال للعيش المشترك..

تتواصل التداعيات.. ويتواصل سرد الاحداث.. لنكتشف ان التغيير مطلوب.. والمعادلة موجودة.. ويمكن تحقيقها.. او تحقيق الجزء الآخر منها.. هي في الحسابات الإنسانية.. من المعادلات غير المرئية.. مقارنة بما كان يهدف لتحقيقه المناضل مازن حسون.. مع بقية رفاقه من أحلام كبيرة وواسعة لتشمل الجميع.. هي أحلام العالم الأفضل.. الخالي من استغلال الانسان للآخر..

لكنها الدوامة.. التي طال انتظارها.. وبعد زمن تحقيقها.. وأصبح من الصعب تحولها الى حقيقة بتلك المواصفات كأنها حلم بعيد يأبى الاقتراب.. بعد الانكسار الكبير في الانفال.. ها هم الكثير من رفاقه من ثوار الامس.. أصبحوا من المشككين بالحلم الثوري.. واخذوا يخلقون لأنفسهم جنات بحجم طموحاتهم الصغيرة.. وسط معمعة احداث فيها الكثير من التناقضات.. استمرار الخراب والدمار.. وتواصل الحروب في بلدان الشرق.. والعراق نموذجاً يدمي العيون في مهاجع اللجوء.. ومع تطور الاحداث وزوال الدكتاتورية ينتبه (باسم ـ مازن حسون) لهول الصدمة.. صدمة التغيير..  

تبخر النظام بكل عنجهياته.. انحل جيشه.. انهارت دولة الطغيان والاستبداد.. رحل الدكتاتور من الواجهة لينزوي في حفرة الجرذان.. وجاء المحتل ليستله من مخبئه بلحية قذرة غير مهذبة.. تخلصنا من الطاغية وبقيت الغصة تلازم باسم والعراقيين.. لم ينتهي كل شيء.. مازال العراق يدار بأيدي قذرة والعناصر الذين تشبعوا بالرذائل.. يؤدون دورهم المطلوب كعبيد.. يجري المتحكم بهم بالريمونت كونترول من عدة عواصم.. تتكالب على بقايا الوطن المستباح.. تبعث على المزيد من اليأس والتشرذم..

 لكن باسم يدقق النظر.. يستكشف الامر.. سيخترق هذا البؤس.. كما كان يخترق الحدود سابقاُ.. الفرصة ما زالت قائمة وسط هذا الخراب.. وعليه ان يبحث عنها ويكتشفها.. الفرصة متاحة لكل من يكافح ويسعى بجد لتحقيق امانيه..

فرصة النجاح لتحقيق ولو جزء من الاحلام.. أحلام باسم وحبيبته ليلى.. في هذه الفجوة من الزمن.. باتت تشغله.. شرع يخطط لتحقيق امنيته الصغيرة.. التي كبرت امام عينيه.. ها هو يعمل في مجال التربية البدنية للأطفال.. وزوجته وحبيبته ليلى مشرفة اجتماعية.. ويواجهون معاً كأسرة مشكلة إنجاب وحرمان من الأطفال.. والتفكير أثمر عن نتيجة.. والقرار محسوم.. يجب انْ تحل المشكلة بالتبني..

هذا هو القرار الصائب.. تبني أي طفل مناسب.. تلك هي ارادتهم الانسانية المشتركة.. سيواجهون مصيراً جديداً.. سيضطرون لمغادرة السويد.. نحو سوريا والقامشلي أولاً.. ومن ثم العبور الى العراق..

في كل خطوة هناك حدث.. وفي كل لحظة هناك خطر.. عبور الحدود والمافيات والعصابات الاجرامية وما حل من خراب في ارجاء الوطن.. ومن ثم المرور من اقصى شمال الوطن في معبر ربيعة نحو البصرة.. في اقصى الجنوب.. مروراً بالموصل وببغداد لمرتين.. والعودة منها.. الأولى وحده.. والثانية مع زوجته محملين بطفلة من أجواء الناصرية.. بمساعدة أصدقاء واقرباء.. وملابسات ما تبقى من مؤسسات دولة.. تعاني من مظاهر التفكك والانهيار والانحلال.. وما يتطلبه هذا التبني.. من إجرائيات تطال ثلاث دول.. لتقرر مصير كائن عراقي.. تركته امه في أجواء مشفى.. ليصبح وديعة عند من حمله ومنحه فرصة للحياة والنجاة والأمل والحب وحتماً الرعاية الافضل..

هي تجربة ستتكرر ثانية.. في أجواء ستوكهولم.. بعد سنتين.. حينما تترك طفلة في جامع.. لتصبح المتبنية الثانية للعائلة.. قبل ما يقارب من عقدين ونصف من الزمن.. وجزء جديداً من جسد عائلة متماسكة ومتآلفة.. منحتها حق الحياة..  

ومنحتنا.. نحن القراء.. فرصة الاطلاع على تفاصيل هذه الرواية.. التي ادهشتنا بتفاصيلها واحداثها وما فيها من عنفوان انساني نحن بحاجة اليه.. رواية اضحكتنا وابكتنا بين حزن وفرح.. وجعلتنا نعيش تفاصيلها.. التي لا تخلو من سخرية في اصعاب المواقف.. كما هو حال العراقيين وتعاملهم في الحروب والمنعطفات وما واجههم من صعوبات ومحن.. وما اكثرها في هذا العمل الروائي المتكامل..

هي رواية قالت الكثير.. واختزلت الأكثر.. رواية انتصرت للقيم الإنسانية.. وروح الانسان.. لا تحتاج للتعضيد والتقييم والاعتزاز والمديح فقط.. وهي لا تحتاجه في هذا الزمن المر.. بل لنتعلم منها الكثير.. الكثير.. من القيم والصفات الإنسانية المفقودة..

رواية تحدد حدود العلاقة بين السعادة والفرح.. بين اليقين والشك.. الرغبة والحق.. هو حق الناس.. كل الناس بالتمتع بفرص الحياة والرعاية الأفضل.. والمستقبل الأفضل.. لصنع الانسان الأفضل.. لكي يبقى الانسان أفضل رأسمال في هذا الوجود.. والأفضل ان نكون جزء من هذا الوجود الأفضل..

هذا ما قاله مازن الحسوني في خياره الآخر..