جلس على المقعد الخلفي لسيارة لم يعرف هويتها، هل هي للشرطة السرية، ام سيارة خاصة تستخدمها دائرة المهاجرين؟ الخوف على مصيره لايزال يستنزف كميات كبيرة من الادرينالين، ساعات الانتظار الطويلة في مطار العاصمة ستوكهولم والتحقيق الاولي من قبل الشرطة زادت من قلقه.

 تلفتَ عبر زجاج النافذة ذات الشمال وذات اليمين محاولا ً أن يفهم مايجري، كان يجهل اللغة التي يتحدث بها الشخص الراكب امامه مع السائق، الغابات الخضر تحيط بالطريق، سيقان اشجار الصنوبر المستقيمة العالية تذكره بغابات النخيل، إشارات الطرق الكبيرة اللماعة ترشد السيارة الى مكان ما، بعد أن مرت بمدينة صغيرة انعطفت السيارة الى شارع فرعي وسط غابة صغيرة ينتهي بأبنية متقاربة ذات طابق واحد، في غرف الادارة ساعده شرح المترجم على فهم مايجري.

ـ  سيتم اسكانك بغرفة مع اربعة عراقيين، ستستلم هويه مؤقته، وسادة، بطانية، شراشف ....، تناول الطعام سيكون في مطعم المعسكر ووفق وقت محدد، كما سيخصص لك مبلغ من المال كأعانة شهرية.

بدأ الاطمئنان يدب في اوصاله قليلا ً، مما ساعده على بناء علاقات طيبة مع العراقيين في المعسكر الذي يضم بشر من مختلف الاجناس والدول.

تعوّدوا على الحياة اليومية الروتينية للمعسكر، إفطار، غداء، عشاء وبينهم فراغ يملؤونه بالحديث عن معاناتهم في الوطن وبالتجوال في الاسواق التي تبعد نصف ساعة سيرا ًعلى الأقدام، هاجس الحصول على تصريح الاقامة كان المهيمن على صحوهم ومنامهم، قصص المغامرت واحتيال المهربين والموت غرقا ً.... أصبحت جزءٌ من زادهم اليومي.

 خبر انتشر كالنار في الهشيم، امرأة وثلاثة اطفال تمّ إحتجازهم في غرفة التسفيرات الخاصة بالمعسكر والتي تقع في الطرف الشمالي منه، قصتها لم تُقنع المحققين، بكاء اطفالها وتوسلاتهم ذهبت هباءً، لهجتها السورية أماطت اللثام عن عراقية مزيفة، همهمات الأسى الرمادية والترقب غطّت سماء المعسكر مع لسعة برد خريفية مُبكرة.

ـ عليكم أن تكونوا جاهزين بعد الافطار غدا ً لنقلكم الى معسكر آخر.

الخبر الذي نقله لهم المترجم اثار حفيظتهم وزاد من توترهم.

ـ  لماذا ...!؟

ـ  المعسكر مزدحم وكل يوم يصل مهاجرون جدد.

لم يتجرأ أحد بمزيد من الاسئلة، فالبعض نبه الى الحذر من المترجمين، يقال أنهم يعملون كمخبرين أيضاً.

همس أحدهم:

ـ  ربما هذا فخ لنا، ينقلوننا بالحافلات الى المطار ويسفروننا الى المجهول.

عادت الى اذهانهم الممارسات المعتادة في بلدانهم، فزادت من حرارة الخوف في نفوسهم رغم البرد الذي يغلف المكان.

ـ  سُرقت لي دراجة، واخبروني بأن أستلمها من مركز شرطة الكفاح، هناك اعتقلوني ونقلوني الى مديرية الامن العامة، لأشهر استمر التعذيب دون أن افهم لماذا، كانوا يرددون إنك يساري وعليك أن تعترف وتدلنا على جماعتك!، وحين ايقنوا أني لا اعرف يساري من يميني اطلقوا سراحي!.

إمتلأت الحافلة، هدير المحرك الخفيف هو سيد المكان، حقائبهم الصغيرة حُشرت تحت المقاعد، انطلقت الحافلة بأتجاه ما، دارت رؤوسهم بين الاتجاهات الأربع، تجاوزت عقارب الزمن أكثر من ساعة، دبَّ الاطمئنان بأجسادهم من جديد، فالمطار لايبعد أكثر من نصف ساعة.

لساعات وشبكيات اعينهم تسطبغ باللون الاخضر للغابات، انحرفت الحافلة عن الطريق الرئيسية لتدلف الى فرع ضيق لغابة لانهائية، توقفت عند مبنى ضخم من اربعة طوابق عرفوا لاحقا ًانه كان يستخدم كمشفىً للمجانين..!.

أشهرٌ طرّزها الملل والخوف وحالات كثيرة امتدت لسنوات، رجل كسا وفر العمر رأسه، يطقطق بمسبحة لاتفارقه اعتزازا ً:

ـ  غابة... معسكر... غابة...  معسكر... غابة... معسكر...

جاء لأحدهم الخبر فشعر بميلاد جديد، أحاطت به التهاني والتبريكات ممزوجة بالحسد الخفي، عليه أن يعدَّ نفسه للانتقال بعيداً عن المعسكر.

 في لحظات الوداع قال لصديقه بأصرار:

ـ  لن اعود ابداً لوطن أذلني وأساء لكرامتي.

ـ  لاتتسرع أنه حكم مشاعر ملتهبة.

بعد نصف عام إلتقيا في مدينة صغيرة وسط غابة، فوجده وحيدا ًحزيناً مهموماً، لايعرفه حتى الجيران.

ـ  أكرع همومي من كأس الغربة كل ليلة، فلا اشعرُ بالدفء، تجترني ذكرياتي ويؤرقني الحنين...

ـ  آه... ياوطني.

ـ  ......... .

عبد الرضا المادح

2010 04 07

البصرة