نحن الذين وُلدنا من رماد،
نمشي على ظلِّ الأمل،
ولا نجيد سوى الانتظار...*

في السنوات الأخيرة، لم يعُد أدهم ينتظر رسائل تأتيه عبر صندوق البريد،
فقد تغيّرت ظروف الحياة، وتبدّلت وسائل التواصل.
لكن في أحد الأيام، وبينما كان راجعًا من العمل، لمح في الصندوق رسالة قديمة.
كان الظرف بسيطًا، مكتوب عليه بخط يدوي: "من النجف".
وشم أدهم رائحة بخور تنبعث منه...

دخل البيت مسرعًا،
ترك الحاجات التي حملها من السوق في الممر،
وأخذ الظرف بين يديه كمن يحمل شيئًا من ذاكرة بعيدة.

فتحه بعناية،
فانبعثت من داخله رائحة الحرمل المحترق،
تلك الرائحة التي كانت أمه تشعلها لطرد الأنفاس الخبيثة،
ولتمنح المكان طمأنينة.

 

(ابني الغالي...)

ماذا أوصيتك منذ كنت في السابعة من عمرك؟
قلتُ لك يومها:
"يا ابني، دع الطير يقف على رأسك،
حتى يهدأ شرودك وتفكيرك".

لكنّك خفت، وقلتَ:
"أخشى أن ينقر رأسي!"

فابتسمتُ وقلت:
"يا ابني، هذا مثل يُقال عن الذين مثلك...
الذين يحملون في رؤوسهم كل أسئلة العالم،
ويشعرون بالغربة حتى في أماكنهم".

 

قال أدهم في نفسه:
ربما فعلتُ شيئًا لا أعرفه...
وأكمل قراءة الرسالة بصوت مرتجف:

(لم تلتزم بوصيتي يا بني،
لم تضع الطير على رأسك، بل نحيته على كتفيك...
وهذا سيتعبك كثيرًا في هذه الحياة).

فأجاب أدهم في قلبه:

"أعتذر يا أمي،
لأني لم ألتزم بوصيتك،
يوم تركتِني دون وداع...

لم يعد طيري مستقرًا في مكان،
ولم أعد أهتم أين يحط...

مرةً يقف على شجرة،
ليعتني بعشه.
ومرة يقف تحت المطر،
ليتأمل أبناءه والطيور الأخرى...

وتارةً يزور المدن في خياله،
ثم يعود، كما كل مرة،
ويقف على كتفي...
آه... آه... آه، يا أمي..."

 

(كما تعرف، يا بني... نحن هنا، كلنا سواسية...
فقراء وأغنياء، شيوخ وملالي، أئمة وشعراء، مغنيون وخطباء...)

صرنا مثل الدود،
نُنظم أكلنا بانتظام،
ولا يعوزنا إلا الماء...

الناس يبخلون علينا،
وربما يصعب وصول الماء إلى سراديبنا،
لكننا نرتوي ببضع قطرات تصل أحيانًا...

 

(أوصيك يا ابني الغالي،
اهتمّ بصحتك قدر ما تستطيع،
ودَع طيرك حرًّا...

ليحطّ في أي مكان،
ما دامت كلّ الأماكن غريبة عليك...)

المهم أن يكون لقاؤنا على الأرض،
بأي كيفيةٍ كانت،
تسعنا اليوم، وربما غدًا...

 

-----------------------------------

*الشاعر جعفر هجول(1940-2010)