مشى والدي بخطى متسارعة، محاولًا اللحاق بالناس الذين سبقونا نحو الحدود. خلال دقائق، اخترق سكون الليل صوتٌ يعرفه الجميع:
"الله أكبر"
كانت تلك الكلمة المتفق عليها بيننا كإشارة للانطلاق معًا.

استقبال مطمئن

لم تكن فرحتنا تُصدق حين استقبلنا أناس من الطرف الآخر من الحدود الإيرانية، يحملون الخبز والماء، وكأنهم علموا مسبقًا بقدومنا. قادونا إلى جامع كبير، هناك تكدّسنا نحن العشرات مع أطفالنا وأمهاتنا، بحثًا عن مأوى.

في اليوم التالي، نُقلنا إلى أرض مفتوحة، ثم جاءت سيارات وزّعت علينا خيامًا. قالوا إن هذا مكان مؤقت حتى نجد مسكنًا دائمًا.

مفاجأة لا تُصدق

في اليوم الثالث، وبينما كنا جالسين في الخيمة، إذ بأخ والدتي يقف أمام بابها. انهمرت دموع الفرح، وكانت يده تمسك يد والدي بحرارة. علمت لاحقًا أن جميع أخوالي خرجوا كل في اتجاه يبحثون عنا، بعد أن سمعوا عن تهجيرنا القسري إلى إيران. كم كنا محظوظين أن لدينا أقارب هنا!

من لا يملك أحدًا في إيران، قد يبقى لسنوات داخل المخيم، كما حصل مع كثيرين ممن قضوا حياتهم هناك في ظروف معيشية مزرية.

في بيت جدي

أخذنا خالي بسيارة أجرة إلى طهران، إلى بيت جدي. كان بيتًا بسيطًا، الطابق الأرضي عبارة عن محلات، وفوقه درج إسمنتي يؤدي إلى أربع غرف صغيرة تسكنها عائلة جدي، المكونة من سبعة أفراد. خصصوا لنا غرفة، صرنا نسكنها معًا.

ترك المدرسة

كان عمري حينها خمسة عشر عامًا. لكن الخوف استقر في أعماقي منذ أول لحظة من التهجير. لم أعد أرغب في الذهاب إلى المدرسة، لا أملك الجرأة، ولا القدرة على تكوين صداقات جديدة أو تعلم لغة جديدة. ملابسي باتت مقيدة، غريبة عليّ، مختلفة عن تلك التي كنت أرتديها في مدرستي في العراق.

ترك بيت جدي

عمل والدي جاهدًا حتى وجد عملًا في صنع الحلويات، كما كان يفعل في العراق. ومع الوقت، صار بإمكاننا الانتقال إلى منزل مستقل قريب من بيت جدي. شعرت بشيء من الراحة. أبلغت والديّ أنني أرغب بالبقاء في البيت لمساعدة أمي، ولم أكن أخرج إلا لزيارة أقاربي أو جدي.

الحب الغائب

مرت السنوات. تزوجت أختي "آمال"، لكن الحب لم يطرق بابي، لا من النافذة ولا من الباب. كنت أبحث عنه في أغاني عبد الحليم حافظ، عبر أشرطة الكاسيت التي أسمعها من المسجل الذي اشتراه والدي.

مفارقة مؤلمة

حصل والدي ووالدتي على الجنسية الإيرانية، أما أنا فحصلت على "الكارت الأخضر"، تبعية عراقية. لم أكن أفكر كثيرًا في الانتماء، كان همّي أن أبقى قريبة من عائلتي. لكن مع الوقت، بدأ سؤال المستقبل يلاحقني، خاصة بعد أن دخلت العقد الثالث من عمري وسط ظروف اقتصادية واجتماعية تزداد قسوة.

فرصة للزواج

كنت أتمنى الارتباط برجل يحمل صفات بسيطة: أن يكون محترمًا، عطوفًا، حنونًا... وطنًا يأويني. لكن كل من تقدم لي لم يكن كذلك. رفضت رجلًا لأنه لم يكن يملك شخصية قوية، ورفضت آخر من أقاربي لأن أختي "آمال" لم تكن متزوجة حينها.

موافقة على الزواج

ذات يوم، وصلني خبر من قريبتي المقيمة في السويد، تقول فيه إن أقارب زوجها يبحثون عن امرأة عراقية للزواج، وسألت إن كنت مهتمة. لم أكن أعرف شيئًا عن الرجل. فكرت في نفسي:
"ربما هي فرصة لحياة مختلفة، لنصيب قد يكون مناسبًا..."

قلت لقريبتي:
– "أنا موافقة، لكن أرجوك، اعتمدي على رأيك في تقييم هذا الرجل!"
ضحكت وقالت:
– "تخيلي أنك تختارين زوجًا لنفسك..."
ابتسمتُ بسخرية حزينة وقلت:
– "لم أختر وطني... فهل أختار زوجي؟"

قالت لي:
– "ربما... لن تندمي."