في إحدى قرى الجنوب البابلي، حيث التراب يعرف خطو الفلاحين، وحيث الشمس تستيقظ على إيقاع النايات الخفية، وُلد راسم الخطاط عام 1955، في بيتٍ لم يعرف نور الأبجدية، لكنه ما لبث أن انفتح على دنيا الحروف عبر نافذة واحدة: شقيقه الأكبر، الذي جاء ذات مساء بديوان "سلوة الذاكرين" لعبد الأمير الفتلاوي، فأوقد في قلب الفتى شعلة لن تخبو. من تلك اللحظة، لم يعد الشعرُ للخطاط زينةً لغوية، بل مصيراً يتربى معه ويكبر في روحه.

لم تسعفه الحياة بترف الدراسة العليا، فغادر مقاعد التعليم بعد الإعدادية، لكنه لم يغادر مقاعد الوعي، وانكب على القراءة والعمل، واتخذ من الخط والرسم مهنةً ومسلكًا، ومن الحرف ملاذًا لا يعرف الخيانة. في المكتب الذي ضم الحبر والفرشاة، وُلد "الرسام" الذي سيعرف لاحقًا بلقب شعري لا يقل جمالية عن لوحاته، إذ أن مفردته القصائدية، كانت كلوحاته تمامًا: دقيقة، متقنة، مغموسة بالدهشة.

راح يخط الشعر كما يخط اللوحة، يرسم الكلمة، لا يقولها فحسب. منذ أواخر الستينيات، بدأ يغزل حروفه على منوال خاص، وسرعان ما وجد لنفسه مكانًا في جمعية الشعراء الشعبيين عام 1973، ومنها انطلقت قصائده كعطر بريّ، يملأ الصفحات والمسامع: في "الجنائن" و"الفرات" و"الصباح" و"كربلاء" و"السنبلة"، وغيرها من منابر العراق، وكان له حضور واضح في الشاشات والإذاعات والمهرجانات، بل كان من السبّاقين إلى إعادة ترتيب بيت الشعر الشعبي بعد التغيير، فساهم في تأسيس الاتحاد العام للشعراء الشعبيين، وترأسه ثم تولّى أمانته.

الشاعر الذي اختصر الشعر بالدهشة

تميّز راسم الخطاط في زمنٍ أصبح فيه التكرار سيد المواقف، بمسحة نادرة من التفرّد: كان شاعر الومضة بامتياز. يلتقط المعنى كما تلتقط العدسة لحظة برق، يوجز ولا يفرّط، يتأنق في انتقاء مفرداته كما يتأنق الخطاط في رسم الحرف. لم تكن قصائده سردًا عاطفيًا ينساب، بل كانت لوحة محكمة، كل بيت فيها مشهد مكتمل، وكل مفردة فيها دلالة مشبعة. كتب القصائد القصيرة كما لو أنه يكتب تعاويذ، وكتب الومضة وكأنها نبض الحقيقة.

لم يكن شاعرًا فقط، بل ناقدًا أيضًا. كتب عن غيره كما كتب عن نفسه، واحتضن الأسماء الجديدة برؤية فاحصة، وكتب عن عماد المطاريحي، وقاسم الياسري، وعودة التميمي، وغيرهم، كما كتب عنه النقاد بنظرةٍ تُنصف الإبداع وتمنحه ما يستحق، ولعل أبرزها شهادة الناقد عيسى مسلم جاسم، التي نُشرت في طريق الشعب، وتحلل قصيدة "شمام" بوصفها مثالًا على تزاوج الانسيابية مع العمق، والومضة مع البوح.

"شمام": قصيدة أم مرآة للروح؟

في قصيدته "شمام"، يتماهى راسم مع الصورة، ويعبر الجمال عبر استعارة واحدة طافحة بالإيحاء:

    على طولك غفا الشمام

    وخدودك ورد ليهسه ما مشموم

بهذين السطرين ينسج مجازًا مترفًا، يُلغي المسافة بين الطبيعة والجسد، بين الرغبة والواقع. يخترق الحسُّ السطور، وتمتزج لغة القصيدة بجسد الحبيب، فتغدو المفردة ملامسة، والعطر طقسًا شهوانيًا لا يُرى. رأى فيه الناقد عيسى مسلم قصيدة رومانسية خالصة، تتحرك ضمن مدرسة تتغذى من الحنين والحب والرمز، ورأى فيها دفقًا ناعمًا لا يخضع للتكلف، بل ينثال كما ينثال النسيم، سلسًا وعميقًا.

أحب النقّاد في قصيدته وحدة الموضوع، وأناقة المبنى، وسلاسة الانتقال بين الصور، ورأوا فيها نموذجًا لقصيدة شعبية تتقاطع مع شعر التفعيلة من حيث الروح والانسياب، ومع الشعر العمودي من حيث هندسة الإيقاع، لكن خصوصية راسم تكمن في أنه لم يتقيد بمدرسة بقدر ما ابتكر أسلوبه الخاص، فصار "أكاديمية القصيدة" على حد تعبير الناقد.

مزيج الفن والشعر

لم يكن راسم شاعرًا فقط، بل كان فنانًا بالمعنى الواسع للكلمة. كتب القصة القصيرة جدًا، أو ما يسمى "الومضة القصصية"، فاز بها في مسابقات عراقية وعربية، وكتب المسرحية الشعبية التي عُدت من أنضج ما أبدعه، حيث الواقعية ليست تجسيدًا سطحيا للواقع، بل اختزالًا لمكنوناته. ويكاد يكون القارئ أمام سيرة فنانٍ شامل، يجيد الإمساك باللحظة، ويعرف كيف يودعها في نص لا يشبه سواه.

وراسم الخطاط ليس شاعرًا عابرًا في مسيرة الشعر الشعبي العراقي، بل حجر أساس في مدرسة تتغذى من الذائقة العالية، والفكر الشفاف، والإحساس الدقيق. إننا حين نقرأه، لا نقرأ مفردة بقدر ما نقرأ إحساسًا مضمّخًا بالمعرفة، وحسًا مشبعًا بالصور، وفنًا يقول ما عجزت عنه الأقلام. لقد جعل من القصيدة مرآة، ومن الومضة دهشة، ومن الحرف خفقة قلب.

ولعل المستقبل، مهما أمعن في الحداثة، سيعود دومًا إلى "راسم الخطاط"، ليستدل على شاعرٍ صاغ القصيدة كما تُصاغ اللوحة، وكما يُعزف اللحن، وكما يُحبُّ الحبيب.