في مساءٍ لاهب من تموز، وفي منطقة الشماعية ببغداد، حيث تسكن عشرات العوائل الفقيرة على أرضٍ حكومية متجاوز عليها، وجدتُ نفسي طفلًا في السادسة من عمري أُترك عند امرأة عجوز تجاوزت الخمسين من عمرها. كنت أبكي وأصرخ بحرقة، أشعر أن الحياة فقدت معناها وقيمتها. لم أسأل نفسي لماذا تركني أبي وأمي، كل ما قالاه إنهما سيزورني بين فترة وأخرى. لكنني لم أكن أعرف متى أو أن كانا سيعودان أصلًا.

أمسكتني المرأة من يدي وأدخلتني إلى بيت بائس من غرفة واحدة. حاولت تهدئتي، ربتت على ظهري ومسكت رأسي بعاطفة أمومية. قالت لي:
 – أهلك قالوا اسمك محمد... لكننا سنغيره، سنجعلك حسين، ونمنحك هوية وجنسية جديدة. لكن عليك أن تهدأ كي أخبرك لماذا تركك أهلك عندنا.

لم أنطق بكلمة، فقط أومأت برأسي موافقًا، وفي قلبي غصّة موجعة. قالت لي إنهم تركوني لأنهم لا يستطيعون إعالتي، ووعدت أنني سأكل وأشرب عندهم، بل وستقنع زوجها عبد الرضا بتبنّي.

اعترضت:
 – لا... لا، أريد أن أعود إلى أبي وأمي!
 لكنها ردّت بحدة:
 – أهلك سافروا بعيدًا... ربما هربوا.

جلست في زاوية الغرفة، حزينًا وخائفًا وجائعًا، حتى اقتنع عبد الرضا أخيرًا بأن أصبح ابنهما. كان رجلاً في الستين، قاسي الطبع، لا يعاملني بود، يصرخ دائمًا ويأمرني بعصبية تجعلني أبكي وأهرب إلى عتبة الباب مكسور القلب.

مرت السنوات حتى بلغت الثالثة عشرة. اعتدت على وجودي معهم فقط لأحيا. كانوا يعطونني أحيانًا ألف دينار لأشتري حلوى، ويقول عبد الرضا: «أنت تأكل وتشرب هنا، لست بحاجة إلى أكثر». لم أكن راضيًا بهذه العيشة، لكنني مضطر إليها. لم يساعدوني في الذهاب إلى المدرسة، فكان الشارع هو مدرستي ومصيري بما فيه من موبقات ورذيلة.

وفي يوم، قالت زوجة عبد الرضا:
 – سنعيدك إلى أهلك، فقد أصبحت متعبًا لنا ولا تسمع كلامنا.

جاء والداي الحقيقيان، وكان لقاؤهما كأنه لقاء مع غرباء تركوني كسلعة. صرخ عبد الرضا في وجهيهما:
 – خذوا ابنكم، أو انصحوه أن يسمع كلامي. أنا أطعمته وأشربته، وأنتم أخذتم أموالًا مقابل ذلك!

كلمة «مقابل أموال» كانت صدمة. هل أصبحت بضاعة تُباع وتشترى؟
 ناداني أبي الحقيقي عبد الأمير:
 – محمد... محمد! ألا تسمع؟
 قلت:
 – اسمي حسين، لست محمد.

قالت زوجة عبد الرضا:
 – نحن غيّرنا اسمه وأعطيناه هوية جديدة.
 فأجاب عبد الأمير:
 – ليست مشكلة. ثم التفت إليّ موبخًا: لماذا لا تسمع كلامهم؟

كنت يومها في الثامنة عشرة، أعمل في فرن صمون لأصرف على نفسي. قلت له إنني أعاني من ظروف صعبة. لكنه واجهني بسؤال:
 – يقولون إنك تأخذ حبوبًا مخدّرة، هل هذا صحيح؟
 أجبته: نعم... لكنني سأتركها.

ورغبت أن أسأله: لماذا تركتموني؟ لماذا جعلتموني أواجه الشارع والمجهول؟ لكنني لم أجد جوابًا، غير صمتٍ يزيد ألمي.

قال أبي بلهجة آمرة:
 – سترجع معهم وتسمع كلامهم.
 فأجبته بخوف وإصرار:
 – كلا... لن أذهب مع أحد. فقط دعوني أواجه حياتي وأرمي مصيري كيفما يكون.

ومنذ تلك اللحظة لم أعد أهتم لمصيري. صارت حياتي تشبه نفخة دخان سيجارة تتلاشى في الهواء.