في مدينة كركوك، التي تعانق التاريخ بحنو، ولد علي حسين عبيد الطائي عام 1967، ليشقّ طريقه بين طبابة الأجساد وطبابة الأرواح، طبيبًا لا يكتفي بعلاج العلّة، بل يغور في شِعاب النفس ليُضمّد جراحها بالكلمة، كما يضمّد جراح الجسد بالعلم والخبرة.

لم تكن رحلة الطائي إلى الشعر ترفًا ولا مروقًا عن واقعه، بل كانت استجابةً داخلية لنداء قديم، يسكنه منذ أول وميض في ذاكرته، حيث كانت اللغة وطنًا، والكلمة سلاحًا، والمعنى ملاذًا. وفي مسيرته التي ابتدأت طبيًا بتخرجه من كلية الطب في الجامعة المستنصرية عام 1992، ظل الشعر حاضرًا في جيب قلبه الأبيض، تمامًا كما ظل الوطن حاضرًا في كل سطر من قصائده

.

يبدو أن علي الطائي قد وجد في القصيدة بوصلة خلاص، وسط وطن ضائع – كما عنون أولى مجموعاته الشعرية – فكانت دواوينه أقرب إلى جردة وجدانية لعذابات الإنسان العربي، وصرخة كرامة في وجه الفقد والانكسار. وقد تنوّعت كتاباته بين الشعر الوجداني، والوطني، والتوثيقي، وحتى الأدب الموجّه للأطفال، في ديوان "أرضنا الزاهية"، كأنما يريد أن يُعيد تشكيل الوعي من الطفولة صعودًا، ليزرع في القلوب شجرة وطن لا تقتلعها العواصف

.

في مجموعته "روح القلوب"، نلمح شاعرًا ينسج أبياته من خيوط الضوء والظلّ، في مزاوجة بين الحنين والوجع، لا تُخطئها عين الناقد. أما في "حكمة القوافي"، فنشهد انحيازًا صريحًا للحكمة، في عصر ضاعت فيه البصائر وسط صخب اللحظة وضجيج الميديا. فيما يظهر في "السجال البابلي"، وهو العمل المشترك مع د. فارس الخفاجي، الشاعر الذي لا يخاف التحدي، بل يُراهن على جمالية الحوار الشعري، بوصفه مساحة للتلاقح الإبداعي

.

ولم يكتفِ الطائي بكتابة الشعر، بل أخذ على عاتقه مسؤولية توثيق التجربة الشعرية للأطباء، في عملَيْه التوثيقييْن "أطباء شعراء" بجزئيه، وكأنه يريد أن يقول: الشعر لا يتنافى مع العقل العلمي، بل يتأخى معه، حين يكون الشعرُ كشفًا، كما الطبُ كشفٌ، وحين تكون القصيدة تشخيصًا لأمراض الوطن والضمير

.

لقد عرفه الوسط الأدبي لا كقادمٍ عابر، بل كصوتٍ يصدح بثقة، بعد أن أسّس مجلسه الثقافي في بابل عام 2020، ليجعل من الكلمة فعلاً مجتمعيًا، ومن الشعر منصّة للتنوير. فغدا المجلس منبرًا للحوار والإبداع، ووثّق جلساته في كتابين يُضافان إلى إنجازاته التوثيقية والفكرية

.

آراء النقاد فيه

يرى بعض النقاد أن تجربة علي الطائي الشعرية تنتمي إلى الجذر الكلاسيكي في اللغة والبناء، لكنها تنحاز إلى الوجع المعاصر في المضمون. فهو شاعر يُحسن توظيف القافية دون أن يستعبدها، ويُراهن على الصورة الشعرية المتوازنة، التي لا تغرق في الغموض، لكنها لا تُسلم نفسها مباشرة للقارئ

.

وذهب الناقد صلاح اللبان في كتابه "الحلة في الشعر العربي المعاصر" إلى أن الطائي يمثّل تيارًا شعريًا ينتمي إلى المدرسة الواضحة في التعبير، المتكئة على دفق شعوري صادق، وأنه لا يُعنى بالتجريب قدر عنايته بصقل المعنى وتطويع البحر لموسيقاه الداخلية

.

أما الناقدة فاطمة بو هراكة، فقد أدرجت اسمه في "موسوعة الشعر العراقي الفصيح"، وعلّقت على تجربته بأنه "شاعر يكتب كما يلتقط الطبيبُ نبضَ المريض، بلا ضجيج، لكنه يصيب مكمن الداء"، وهي شهادة تليق بشاعر جمع في قلبه بين نبض القصيدة ونبض الحياة

.

وثّقت له المواقع الثقافية المعروفة مثل "بوابة الشعراء" و"ديوان العرب"، مما يشي بحضور فعلي واعتراف ضمن فضاء الشعر العربي المعاصر، وهو ما يعكس ديمومة عطائه، وتقدّم تجربته على صعيدَي الشعر والتوثيق

.

في الختام

علي الطائي شاعر لم يتخلَّ عن مشرطه، بل وسّع من معناه، فصار المشرط كلمة، والعيادة منبرًا، والقصيدة عيادة للضمير الجمعي. وبين فوضى الواقع العراقي وعنفوان الحلم، يكتب شاعرنا سيرة وطن في دواوين، وسيرة قلب في كل بيت شعر. فإذا سألنا: مَن قال إن الطبيب لا يكون شاعرًا؟ جاءنا الطائي ببيته، وقصيدته، وسيرته، ليقول: أنا الشاهدُ على جرحَين... جرحُ الجسد وجرحُ الروح.