ذات صباح صيفي، خطواتي الثقيلة تسحل قدماي في شارع الوطني بالعشار وعثرات الرصيف تترصدني، خطفتني التفاتة الى شمالي، لتقع عيناي على لوحة خشبية كبيرة شاخ بها الزمن، وتركت الشقوق على سطحها مسحة من الاحزان، فتحة الباب الكبيرة اغرتني بالدخول متردد الخطوات.

ـ  استاذ الى أين؟ نادى رجل ضخم الجثة بدشداشة بيضاء ووجه باسم.

ـ  نيست ذكرياتي على مقعدٍ عسى أن اجدها..!

ـ  احذر انهيار احجار السقف فالمعاول ليس لها عيون..!

رسمت قدماي اثاراً بارزةً على الاتربة في ممر القاعة الفسيحة بين كراسي اصطبغت بلون التراب.

ـ  آه..... هنــا ربما كنت اجلس حينما كانتا عينيّ مشدودتين الى مفاتن "نساء الامازون" في غابة من حسرات المشاهدين وصفيرهم!

مساطب "أبو الأربعين" امتلأت عن اخرها بعيون تتلصص اسفل الشاشة لسيقان طرية..! لكمات وصرخات عكّرت المشهد..! صياح البائع امتزج مع دخان السجائر عبر الاشعة الممتدة فوق الرؤوس "ببسي بارد... بارد... حب ابيض... حب شمسي..." انقطع الفلم وساد الظلام، تعالت صرخات مرة اخرى "اعور... اعور..."..! صوت قنينة تتدحرج بين الاقدام..! وهج جمرات السكائر عيون تنين مُستفزة للّقطة القادمة.

اقتربتُ الى الامام اكثر لينكشف لي نور ينثال من فتحة كبيرة في السقف وهي تتسع مع تساقط الاحجار، غمامة من الاتربة ترسم بقايا الفلم على الشاشة الكبيرة، بحثت على الجدارين الجانبيين عن امرأة توسدت ذراعها شبه عارية سارحة في احلامها الشبقة، فلم اعثر إلا على بقايا عطرها المخضب بشال شفيف ينساب على وسطها، ودمعة تركتها فاتن حمامة على خدها الطري.

في صالة الاستقبال تناثرت صور الافلام على الجدران باطاراتها الفضية، وبقايا من بطاقات الدخول تنتظر المشتري على شباك التذاكر..! طيف عائلة وصبايا مرّ مسرعاً الى مقصورة     "اللــوج"، رنين قناني البيبسي كولا ورائحة السمبوسة تتسلل من كشك المطعم.

ـ  هل تذكر فلم Z...؟ بادر الرجل بالسؤال.

ـ  لقطاته لاتزال عالقة في الذاكرة، ورجال الامن يزاحمون اليساريين وسط صالة مكتظة..!

ـ  لقد وزعتُ بقايا ملصقاته على المارة قبل يومين.

ـ  ..............!؟

تعثرتُ باجزاء من ماكنة العرض المهشـّمة على ارضية الصالة! لملمت ماتبقى من ذكرياتي ويممت وجهي صوب اطلال سينما اطلس والرشيد والكرنك والحمراء..... لألتقط مايكمل الصورة المتكسرة في روح طائر غريب..!

عبد الرضا المادح

2011-06-21

البصرة.

* الوطن... اشارة الى سينما الوطني الشتوي في البصرة، وقد هدمت مع اربعة عشر داراً.

* كانت هناك جداريتان كبيرتان متطابقتان تزينان قاعة السينما، لامرأة مستلقية للفنان سلمان البصري لا يُعرف مصيرهما.