في قلب مدينة الحلة، عند تقاطع الأزقة المضمخة برائحة التاريخ ونبض الفرات، وُلِد محمد عبد الجليل شعابث في العاشر من شباط عام 1965، وتفتّح وعيه على الحكايات التي كانت الأمهات تسردها في ليالي الشتاء، وعلى الأبواب الخشبية التي كانت تنفتح على عالم من الألفة والمرويات الشعبية. ومن هناك، من محلة الطاق، بدأت رحلته مع التراث، لا كمستهلكٍ مأخوذ بسحر الماضي، بل كمنقّبٍ صبور، يفتّش في الغبار عمّا تُخفيه الزوايا من جمال ومعنى.
بدأ شعابث حياته العملية في مجال الصحة بعد حصوله على دبلوم عالٍ من معهد الصحة العالي سنة 1985، لكن الروح التي تسكنه كانت تميل إلى الحروف أكثر من المشارط، وإلى دفاتر القصص أكثر من تقارير الفحص. فانتقل إلى دراسة الإعلام، نال فيه البكالوريوس ثم الماجستير، وجعل من تخصصه هذا جسراً بين الوعي الثقافي والممارسة المعرفية، وبين التراث كهوية والإعلام كأداة.
باحث لا يقنع بالسطح
تميّز محمد شعابث بمشروعه الثقافي المتين، إذ اختار أن يُدوّن لا ما يتكرر، بل ما يُنسى، وأن يُحيي لا ما يُروى دومًا، بل ما أوشك أن يُهمل. كتب عن التراث الشعبي بحسّ العارف، وبعين العاشق، فجاءت كتبه محمّلة بعطر البيوت الحلّية القديمة، ودفء المجالس، وتفاصيل اللهجة وملامح الناس. في كتابه "شبابيك حلّية"، كما في "اللغة السايسانية في التراث الحلي"، نلمس جهده في انتشال الذاكرة من براثن الإهمال، وتقديمها للقارئ بروح علمية وأدبية معًا.
لم يكن شعابث أسير الكتابة التراثية فحسب، بل تنوّع نتاجه الأدبي، فكتب القصة القصيرة أيضًا، وترك فيها بصمته الخاصة. ففي مجموعتيه "بائع الهم" و"ضجيج جميل"، نقرأ للناس البسطاء، لأوجاعهم الصغيرة، وانتصاراتهم الخفيّة، بتقنيات سردية ناعمة لا تتكلف، لكنها تترك في الروح أثراً لا يُمحى. وبلغت مجموعته "ذاكرة حاضرة" حدّ المزج بين القص والتأمل، بين الواقع والرمز، بطريقة أدهشت كثيراً من النقاد.
صوت في الهيئات والمنتديات
ما بين كونه عضوًا في اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، ومستشارًا ومؤسسًا في عدد من المتاحف والهيئات الثقافية، ظل محمد شعابث طاقة حيوية لا تهدأ. أسهم في تأسيس هيأة تراث بابل وهيأة تراث النجف، كما كان رأس رمحٍ في جهود الإحياء والتحديث الحضاري، مسخرًا معرفته لترسيخ قيمة التراث بوصفه قاعدة انطلاق نحو المستقبل.
وقدّم محاضراته في جامعات ومجالس عراقية وإيرانية، مبرزًا أهمية الإعلام في إحياء التراث الحسيني، وهو ما تناوله علميًا في رسالته للماجستير وبحوثه اللاحقة، التي اتخذت من الإعلام منصةً لإعادة الاعتبار للهوية الثقافية والدينية.
نقاد تحدثوا عنه...
رأى فيه بعض النقاد صورة الباحث الذي يجمع بين وفاء الماضي وقلق الحاضر. قال عنه أحدهم: "في كل نص يكتبه، ثمة حرص مخلص على حفظ التفاصيل الصغيرة، كما لو أن في ضياعها ضياعًا لجزء من الذات العراقية." وكتب آخر: "في تجربته القصصية، لا يعلو الصوت الفني على الهمّ الإنساني، بل يتكاملان في حوار داخلي يمنح القصة معناها ومكانتها."
أما الذين عايشوا حضوره في المؤتمرات الثقافية، فيرونه "صوتاً رصيناً" و"باحثاً يقف في الظل ليضيء غيره"، لا يطلب من المجد شيئاً سوى أن تُسمع الحكايات التي يخاف عليها من الصمت.
الكتابة التي لم تطبع بعد...
وفي الدرج، تنتظر أوراق لم تسقط أن ترى النور في ديوانه غير المطبوع، فيما يلوّح كتابه "من هنا وهناك" كفسيفساء جديدة من المشاهد والرؤى. وحين تُطبع، لا شك أن محمد عبد الجليل سيضيف بها فصلاً جديداً إلى سيرته الطويلة مع الكتابة، لا باعتبارها حرفة أو مهنة، بل كونها حياة.
هكذا، يبدو محمد عبد الجليل شعابث أشبه بمُفهرِسٍ كبير لذاكرة الجنوب، يكتب كي لا ننسى، ويسرد كي لا نذوب في التيارات الجارفة التي تسعى لاقتلاع الناس من جذورهم. وحين تسأله: لماذا تكتب؟ فقد يجيبك كما أجاب ذات مرة في أحد لقاءاته: "لأقول إننا كنا هنا... وكان للحكاية بيت وأثر."