على ضفاف الفرات الأوسط، وتحديدًا في قرية الزرفية الوادعة، وُلد شاكر هادي غضب عام 1947، كأنّه مولود للحرف منذ البداية، وللفنّ منذ الطفولة، وللذاكرة الشعبية منذ أن تفتّحت في ذهنه صور القرويين وعاداتهم، وأزياءهم، وصوت الجزارين في صباحات السوق. لم يكن شاكر ابن بيئة بسيطة فحسب، بل كان ابن التفاصيل المهملة، التي جعل منها لاحقًا مادة معرفية حية تنبض بالحياة.

دخل المدرسة وهو في السادسة من عمره، متقد الذهن، ملهوفًا على الاكتشاف، ثم مضى في دروب الدراسة من القاسم إلى الحلة، حتى وجد نفسه واقفًا أمام أعتاب دار المعلمين الابتدائية، يحمل بين أصابعه الملوّنة بذوق الفن، ميلاً فطريًا للرسم والحفر والنحت، تلك الفنون التي كانت تُدرّس في الهامش، لكنها كانت لديه في المتن.

لم يكن الفن عند شاكر زينة أو هواية، بل كان لهفة وجود، ونافذة على روح عراقية عميقة. وقد وجده المدرس عبد الغني المصري طالبًا خامًا، فشجّعه أن يشق طريقه، ويمضي في تهذيب موهبته التي كانت كجذع برّيّ ينتظر الماء. وهكذا بدأ شاكر يدمج بين حسّ الفنان وعين الباحث، بين ذائقة الجمال ومنهج التوثيق، حتى إذا بلغ عام 1969 نُسب لتدريس الرسم في ثانوية القاسم، وهناك كان اللقاء الحاسم مع أساتذة مبدعين أمثال حامد الهيتي وحسين الشلاء، فانفتح أفقه على ألوان جديدة ورؤى تشكيلية أوسع.

غير أن شاكر لم يكتفِ بفرشاة الرسم، بل أخذ القلم إلى ميادين اللغة، مستعيدًا التراث الشعبي بعين الباحث المدقق. بدأ النشر الأدبي مبكرًا، وهو بعد طالب، في مجلة "المتفرج" عام 1965، ولم تمضِ سنوات حتى صار من كتّاب مجلة "التراث الشعبي" المعتمدين، يكتب عن الحلي والأزياء والعادات، لا بوصفها زخارف، بل كبقايا ذاكرة جمعية تسكن في التفاصيل.

وقد كان لهذا التلاقح بين الفن والبحث أثره في كتاباته؛ فقد صدر له عن وزارة الإعلام العراقية كتابه الفريد "بداءة معجمية في مصطلحات الحلي والأزياء"، وهو عمل يذكّر الباحثين بأن اللباس والزينة لهما لسان، وتاريخ، ووظيفة في سرد الحكاية الاجتماعية. كما جاءت دراسته "الهندسة المعمارية والفن التشكيلي في المساجد الإسلامية والمراقد المقدسة" لتؤكد عمق اتصاله بالجمال الروحي والرمزي في المعمار، كأنّه يبحث عن سرّ الانسجام بين القداسة والبناء.

أما كتابه المشترك مع الدكتور عبد العظيم الجوذري "التاريخ الاجتماعي في الفرات الأوسط" في جزأيه، فهو من الأعمال التي حفرت عميقًا في التربة الاجتماعية، وقدّم فيها شاكر سردًا لواقع الناس، حكاياتهم، عاداتهم، وهمومهم، بلغة لا تخلو من شاعريته الكامنة، وإن جاءت في سياق البحث العلمي.

شارك شاكر غضب في معارض فنية ومهرجانات ثقافية داخل العراق وخارجه، وكان أبرزها فوزه عام 1978 في معرض الخط العربي في الموصل، وهو فوز لم يكن وليد المصادفة، بل ثمرة لدراسة الخط على أيدي كبار الفنّانين أمثال عبد الله السنجاري وحسام الشلاه، حين أُرسل إلى الدورة السادسة للخط بترشيح خاص من مدير عام التربية.

الكتّاب والنقاد الذين كتبوا عن شاكر هادي غضب، لم يكونوا يتحدثون عن مجرّد باحث ، بل عن صوت أصيل، ينبض بتراب القرى، ورائحة الخبز، وألوان الجلابيب المطرزة. رأوا فيه مثالاً للباحث الذي لا يقف عند عتبات المكتبة، بل ينزل إلى الميدان، يُصغي للناس، ويقرأ وجوههم، ويحاور ذاكرتهم. وقال بعضهم إن شاكر هو وريث الذاكرة الشعبية المنسيّة، التي تتجدد على يديه في كتب ومقالات، وخطوط وألوان.

شاكر هادي غضب ليس باحثًا عابرًا في عالم الفن أو التراث، بل هو مقيم فيه، ناحتٌ في صخر الهوية، يرفض النسيان، ويصرّ على البقاء في هامش الضوء، حيث تبدأ الحكايات التي لا تنتهي. وهو وإن لم يكن من الوجوه الإعلامية الصاخبة، إلا أن أثره في الميدان الثقافي العراقي لا تخطئه العين، لا سيما في الوسط البابلي، حيث عرفه زملاؤه كعضو بارز في اتحاد الأدباء والكتّاب، وناشط فني في نقابة الفنانين.

إنه مثال لما يمكن أن يكون عليه الباحث الحقيقي: عارفًا، فنانًا، نزيهًا في الانتماء للناس، ومخلصًا لما رآه مهمًا في مشروعه الثقافي، مهما بدا بسيطًا في أعين الساسة والنجوم العابرين.