من زقاقٍ ضيقٍ في محلة النزيزة، في قضاء المسيّب، حيث تتنفس الأرض الحكايات، خرج علي عبد الأمير عجام حاملاً في روحه إرث أسرة عرفت الحرف والنقد والموقف؛ فشقيقه هو الناقد الشهيد قاسم عجام، وما بين الدم المشترك والقلم المتوهج، انطلقت مسيرة علي في الكتابة والصوت والحلم.

ولد عام 1955، لعائلةٍ عراقية جذرها في آل عجام الخفاجي، ونشأ في مدينة المسيّب، تلك المدينة التي تمزج الفرات بالتاريخ. اجتاز الدراسة الإعدادية في الفرع العلمي، فالتحق بكلية الطب البيطري في جامعة بغداد، وتخرج عام 1978، ولكن القلب لم يكن في التشريح، بل في الكلمة، في العبارة التي تتوهج في النصوص، وفي الجملة التي تقود إلى كشف أعمق من ظاهر الوقائع. ومن مقاعد الكلية، بدأت رحلته مع الصحافة، فكان ينشر قصائده الأولى ويكتب بأسلوب ناضج يسبق عمره، ويمشي نحو المستقبل بخطى شاعر وإعلامي في آن.

رجلٌ جمع بين الشعر والميكروفون، بين القصيدة والمقال، بين الكلمة الموزونة والتقرير التلفزيوني، فصار صوتًا ثقافيًا متفرّدًا في ساحةٍ تزدحم بالأصوات العابرة. لم يكن إعلاميًا فحسب، بل كان يحمل وعي الشاعر وحدس الناقد، وعيًا يتجلى في كل حرف كتبه، وفي كل فكرة بثّها على شاشة أو في صحيفة.

منذ مغادرته العراق عام 1997، صار علي عبد الأمير مقيمًا في فضاء الكلمة الحرة. كتب، وحرّر، وقدّم البرامج، وتولّى مسؤوليات تحريرية في منابر ثقافية وإخبارية رصينة: من صحيفة الرأي الأردنية، إلى الحرة عراق، إلى صحيفة الحياة، إلى مجلة مشارف الفلسطينية، فـ اليوم السابع في باريس، ومجلة الموسيقى العربية، وصحيفة الاتحاد الاماراتية. لا مكان استقر فيه إلا وترك أثرًا واضحًا، لا يطغى، لكنه لا يُنسى.

أدركه الإعلام لكنه لم يُفلت الشعر. أصدر ثلاث مجموعات شعرية لافتة:

يدان تُشيران لفكرة الألم (1992).

خذ الأناشيد ثناءً لغيابك (1996).

بلاد تتوارى (2005).

شعره نثري الطابع، حداثي النفس، متكئ على حساسية لغوية عالية، وعلى تجربة عاطفية وفكرية مركّبة، فيها العراق كجرح، والمنفى كمنفى للذات لا للمكان فقط. كتب الحزن كما يُكتب الفقد، وكأنه يترجم غياب العراق إلى صورة، والغياب إلى تراتيل.

وفي النقد، كان عجام صوتًا استثنائيًا في تحليل الشعر والموسيقى، خصوصًا حين اتجه إلى دراسة الأغنية الغربية واشتباكها مع الذائقة الثقافية، فكتب كتابه نجوم الأغنية الغربية في الثمانينات، ونشر مقالاته في مجلات رصينة مثل الثقافة، فنون، نزوى، الطليعة الأدبية، الموسيقى العربية، وصحف دولية كـ الحياة، والاتحاد، والصباح الجديد. وكانت مقالاته أقرب إلى دروس في الإنصات، يحلل فيها البُنى اللحنية كما يحلل الشاعر قصيدته، ويفكك الكلمة المسموعة كما يُفكك النص المكتوب.

يصفه بعض النقاد بأنه المثقف المركّب، الذي يصعب حصره في خانة واحدة: فهو إعلامي محترف، وشاعر متجدد، وناقد موسيقي بصير، وصحفي ذو وعي سياسي واجتماعي. عبر مقالاته ومداخلاته ومحاضراته في اتحاد الأدباء، وجامعة بغداد، والمستنصرية، وملتقيات عمان وبغداد.

أما أسلوبه، فكان دائمًا يحمل نكهة "الكاتب الذي يفكر"، و"الصحفي الذي يهمه الجوهر لا العنوان"، والناقد الذي لا يهادن اللغة، بل يعيد تشكيلها. يكتب بمزيج نادر من العاطفة والفكر، ومن الفصاحة والتحليل، فلا هو الصحفي التقليدي، ولا هو الناقد الأكاديمي الصلب، بل جسر بين العوالم.

وقد اعتبره النقاد جزءًا من الجيل الطليعي الذي حافظ على اتصاله بالحداثة من دون أن يقطع جذوره مع التراث، فقصيدته تمشي في دروب السيّاب والبياتي، لكنها تنعطف في لحظات إلى مقامات أدونيس والماغوط، ومقاله يحفظ لغة الجرائد لكنه يعلو إلى مستوى الرؤية النقدية العميقة.

في زمن السطحي والمستعار، يظل علي عبد الأمير عجام من الأسماء التي تشبه أرشيفًا حيًا لثقافة العراق في المنفى، ومن القامات التي ما زالت تكتب بصدق، وتحاور بعين الشاعر، وتُحلل بأذن الناقد، وتُدوّن كما لو أن كل حرف هو محاولة لردّ الاعتبار لبلدٍ اسمه العراق، ذاب كثيرًا في النسيان