عن النصير الشهيد "أبو غسان – محمود .. / حيدر فاضل "حنفي"

لا أدري من أين حصل "أبو غسان" على رواية من روايات دستويفسكي في تلك الظروف الغريبة، أظنها كانت رواية "الأبله"، وأنشغل بقراءتها بشغف ملفت... كنا على قمة جبل أسمها "نيروه" في منطقة "بيتوش"، قمة اختيرت لنصب أول محطة اذاعة للحزب الشيوعي "صوت الشعب العراقي"، جرداء الا من ثلوج لا تغادرها واشجار جبلية متناثرة، كانت بين أعلى قمم المنطقة، أمامها فضاء مفتوح نحو أراضي العراق، يقابلنا جبل "ماوت"، ونرى بالناظور بلدة "جوارته" ومعسكرها، بعيدة مثل كومة نمل صغيرة، وفي أيام الصحو تلوح السليمانية وبحيرة دوكان. في قمة الجبل هذه، وفي كانون الثاني عام 1981، كلّفت مفرزة خاصة، من 10 او 12 نصيرا لبناء مقر للإذاعة، قاعتان مخفيتان يكون سقفاهما بمستوى أرض الجبل، كي لا يراهما الأعداء، معنا أول مجموعة من المهندسين ومساعديهم (عادل مخلص، ابو نادية، صارم، الشهيد عمار، آوات)، وعلى رأس المفرزة عسكريا، وعملا، الشهيد "عريف حسيب"، كان رئيس عرفاء في الجيش لكننا تعارفنا عليه باسم عريف حسيب، واداري المفرزة الشهيد "أبو غسان".

كان الطقس شتاءً قاسيا، الأرض يغطيها الثلج، مقر قاعدة الانصار في بيتوش يبعد ساعة وأكثر من النزول المتواصل، و"أبو غسان" يذهب مع البغل، لجلب حصتنا من مواد التموين، (طحين ورز وفاصوليا يابسة وحمص وباقلاء ولوبيا وعدس وشاي وسكر وحليب وسمن... الخ) ... مرة جاءنا ومعه رواية دستويفسكي، رفعها مسرورا أمامنا كأنها تموين استثنائي، ولقية نادرة... وكان هو أول القارئين لها هناك. عادة في النهار كلنا مشغولين بالحفر والبناء والمهام، مساءً وليلا وعلى ضوء الفانوس، ينزوي مستغرقا في قراءتها على مهل، يتذوقها ببطء، يستطعمها مستمرئا، يبحر فيها ويجول مع شخوصها الأزقة الفرعية، يغوص في أجوائها وأحداثها... أطلق شعر لحيته، وأهمل نظافة جسده، وحين يضعها جانبا كان يسرح في أثرها، ينظر الينا وعيونه شاردة... كنا مجموعين في القاعة الأولى التي تم بناؤها، ولنا جدول لوجبات الغداء، يوم للفاصوليا وآخر للحمص ثم للوبيا... في أيام رحلته مع دستويفسكي، اخترع مرقة مختلطة، حمص على فاصوليا على باقلاء ولوبيا، كلها في قدر واحد... طبخها والتفت الينا ضاحكا "ما الفرق كلها بقوليات، بدل ان نطبخها ونأكلها منفصلة على التتابع، نخلطها مجتمعة".

هو ذاته، "ابو غسان"، كان خلطة من المحبة والألفة والطيبة والمرح والروح البغدادية والثقافة والموقف المبدئي والنشاط والشجاعة والسخاء في خدمة رفاقه، وقناعة صادقة بصحة القضية التي جاء ليقاتل من أجلها... واستشهد دفاعا عنها.

أبو غسان هو: "محمود علي رحيم"، مواليد عام 1947 في بغداد، خريج معهد الصحة العالي فرع الصيدلة عام 1970، معاون صيدلي. عمل في المركز الصحي لشقلاوة في السبعينات. ارتبط بنضال الحزب منذ عقد الستينات، وحين أصبح مطلوبا للسلطات خلال حملة إبادة الشيوعيين التي أطلقها البعث المقبور خرج من العراق، لكن سرعان ما عاد اليه ملتحقا بفصائل الأنصار في كردستان.

كنا في قاعدة "هيرتا" بجبال هورامان، بداية عام 1980، حين وصلنا الشهيد قادما من خارج العراق، عبر القامشلي، في مفرزة ضمت الطبيب المحبوب "د. دلشاد – ناظم الجواهري". وبوصولهما صار عندنا في هيرتا مركز طبي، صغير في حجمه وكبير في أهميته وخدماته، فيه جرى انقاذ حياة العديد من الأنصار، مرضى أو جرحى المعارك، سواء من الشيوعيين او من القوى الكردية، إضافة لخدماته لأبناء القرى القريبة والبعيدة، وشكل الدكتور دلشاد مع مساعده أبي غسان ثنائيا رائعا في إدارة الطبابة وتقديم الخدمات الصحية.

فور وصوله أصبح للشهيد حضورا جميلا ومفيدا بين أنصار هيرتا، نشط ومرح، متزن وودود ومبادر، خبرة في العمل الصحي، ثقافة ووعي واهتمامات أدبية، قناعات نضالية راسخة، نقاء ومبدئية في السلوك والتصرف والرأي، روح نقدية بناءة للمظاهر السلبية والأخطاء أي كان مصدرها، ينتقد بسخرية مظاهر البيروقراطية العسكرية والعشائرية، دون مغالاة وشطحات.

جمعتنا معا صداقة مؤثرة، نقضي الكثير من أماسي وليالي الجبل الطويلة في اهتمامات مشتركة وأحاديث هادئة لا تنتهي، وذكريات مشتركة عن بغداد وأهل بغداد، كانت بيئة نشأتنا واحدة، في ذات الحارات والأزقة والشوارع والمدارس. وفي بيتوش، بداية عام 1981، اقتربنا أكثر من بعض، صرنا لا نفترق... سهرنا الليلة الأخيرة سوية، قبل تحركه صباحا مع سرية كرميان الى منطقة زنكنه. كانت تقاليد العمل تمنع كشف هوياتنا الشخصية الصريحة، لكننا في تلك الليلة تكاشفنا، وحين عرف أنى شقيق صديقه، نهض فرحا ليعانقني وهو يضحك "كنت متأكد من أني أعرفك". في الصباح ودعته مع المفرزة... ذهب ولم يعد.

قبل أيام من تحركها نحو كرميان، كان أغلب أنصار السرية غير مقتنع بآمرها العسكري، وبين مقدمتهم الشهيد "أبو غسان"، اجتمعت السرية وحاولوا تغيير آمرها، اختاروا الشهيد حسيب، المعروف بكفاءته العسكرية وشجاعته وحب الرفاق له، بديلا لآمر السرية، لكن أمراء القاعدة العسكريين والحزبيين اعتبروا ذلك تمردا على الأوامر، لم يصغوا للرفاق الذاهبين للقتال جنوب شرق كركوك، وألغوا نتائج اجتماع السرية، "لا انتخابات في الوحدات العسكرية... فقط تنفيذ أوامر".

في شباط عام 1981 تحركت سرية كرميان الى منطقة زنكنه، ميدان نشاطها، وكان أنصارها على حق بشأن آمر السرية، فبعد أيام من وصولها انكشف أمرها، وصارت لقمة سائغة للعدو... في يوم من آذار طوّقت السرية من كل الجهات، وخاضت معركة غير متكافئة مع قوة كبيرة من الجيش والمرتزقة، لعبت طائرات الهليكوبتر دورا حاسما في المعركة التي بدأت أول الصباح وانتهت آخر المساء، في منطقة شبه سهلية قريبة من بلدة "قادر كرم"... أبيدت فيها السرية واستشهد أكثر من عشرين رفيقا، ولم ينجو سوى آمرها الذي أختبأ منذ بداية المعركة التي قادها ميدانيا ببطولة نادرة "عريف حسيب"، ظل يقاتل حتى استشهاده... كان بين الشهداء "أبو غسان – محمود علي رحيم".