عن الفقيد "محمد رشيد مام بارام" المناضل ../حيدر فاضل "حنفي"

مع "مام بارام" في حلبجة عام 1979

في الطريق الى الجبال والالتحاق بالأنصار كانت "حلبجة" محطتنا الأخيرة قبل صعود الجبل والوصول الى قاعدة الأنصار في "هيرتا" بهورامان. كنا ثلاثة شيوعيين عرب رحلنا من مركز الحزب في بغداد الى مدينة السليمانية لغرض الالتحاق بالأنصار.

في مساء من تشرين الثاني عام 1979، دخلنا حلبجة، قادمين من السليمانية، التي مكثنا فيها مختفين قرابة الاسبوعين، بضيافة مسؤولي محلية الحزب... بعد أن اجتزنا عدة سيطرات تفتيش عسكرية وأمنية، كان أشدها على ما اذكر قبل دخول ناحيتي "سيد صادق" و"سيروان".

اتذكر منظر حلبجة في ذلك المساء الماطر، الشوارع موحلة، والبيوت فقيرة، صغيرة متراصفة، مشيدة بطابوق الـ"الشتايكر" الاسمنتي وبأبواب حديدية، أو هذا ما رأيته منها. كان هواؤها مختلفا، صافيا يحمل رائحة جبال هورامان.

وقفت السيارة، كانت "لادا" حمراء اللون يقودها أحد رفاق مدينة السليمانية، أمام بيت "رشيد كبابجي – ابو فهد" أحد كوادر الحزب العاملين في حلبجة، الذي استقبلنا بحفاوة ومودة. دخلنا بيته وعادت السيارة بسائقها والرفيق الذي أوصلنا الى السليمانية. بعد وقت ليس بطويل، جاءنا "مام بارام" المسؤول الحزبي في حلبجة، الذي أخبرنا بعد الترحيب الودود والابتسامة السمحة ((جئتم في وقت غير مناسب))!

صادف، في تلك الأيام، ان حلبجة كانت تغلي... طلابها، في اعدادية الصناعة بالتحديد، انتفضوا بوجه السلطة واضربوا، جرى اغتيال مدرس بعثي سافل، وفي يوم وصولنا استيقظت حلبجة على شعارات معادية لسلطة البعث تغطي جدران شوارعها، كان جميع من فيها متوجسين، ينتظرون ردود فعل أجهزة السلطة الأمنية والعسكرية.

كان "مام بارام" الذي أمسى المسؤول عن ترتيب التحاقنا بالأنصار، يحدثنا عن أخبار وظروف المدينة الطارئة، حين دخل مسرعا أحد أبناء "رشيد كبابجي" الذي كنا في بيته، ويبدو ان الشبيبة من الأبناء كانوا يقومون بدور الاستطلاع، أخبرهم بما جعلهم ينظرون الى بعض بعيون مفتوحة على آخرها... قوة كبيرة من القوات الخاصة وقوات المغاوير دخلت المدينة... وبدأت الأخبار المقلقة تتوارد، يفتشون الشارع المجاور ويقتحمون البيوت، بيتا بعد بيت، يبحثون عن طلاب اعدادية الصناعة الذين نشطوا في الانتفاض على السلطة، يفتشون أثاث وأغراض البيوت بحثا عن السلاح وعن أدوات الكتابة على الجدران، علب الأصباغ المضغوطة "السبري" وغيرها، وعلى ما أذكر كان أحد أبناء رشيد طالبا في اعدادية الصناعة وأحد المشاركين في الأحداث... ثم جاءت الأخبار الأشد قلقا، دخلوا الشارع الفرعي الذي فيه بيت "رشيد كبابجي" حيث نحن، وبدأوا باقتحام بيوته.

مام بارام، المسؤول الأول حزبيا بين الحاضرين، الذي لم يرف له جفن خوف، سارع بتعليماته، والآخرون سارعوا بتنفيذها، فرشوا سفرة طعام كبيرة على الأرض، وزعوا عليها صحون حوت كل ما في البيت من مواد غذائية، فواكه وخضروات وخبز وأطعمة مطبوخة، بدا المنظر كأننا ضيوف في دعوة عشاء، وخلال اعداد سفرة الطعام طلب منا مام بارام، الذي كان يتصرف كأنه مخرج مسرحية، بأن نتأنق، نحلق ذقننا على السريع، نلبس أحسن ما في حقائبنا الصغيرة... "أنتم ضيوفنا، وصلتم اليوم من بغداد لأغراض التجارة، بيع وشراء، نعرفكم واهاليكم من زمن... أنت ما اسمك في الهوية، وأنت، وأنت؟"... حلقنا وتأنقنا وجلسنا على افرشة وشراشف في صدر حلقة الجالسين، نتكئ على الوسادات، "ابتسموا" هكذا طلب منا مام بارام وهو يبتسم "يللا... لا تديرون بال!"... وبدأ هو ورشيد الحديث بصوت غير هامس وعلى طريقة المضيفين، كي نضبط الدور إذا ما دوهمنا. كان يتصرف بحكمة وخبرة، دون ارباك وتخويف، كان سلوكه يبعث التماسك في الآخرين، والجميع بما فيهم نحن الذين تعرفنا عليه في ذلك المساء، يثقون به وبترتيباته ثقة كبيرة.

كان مام بارام يجلس جانبي، التفت اليه في حديث خافت، سألته:

- رفيق ما مدى سوء الأمر وخطورته؟

- لا أخفي عليك... إذا دخلوا سيأخذوننا كلنا في الغالب!... قالها متيقنا، دون مواربة.

- الا توجد طريقة للدفاع عن أنفسنا؟ ... هل يمسكوننا كما الدجاج؟... معقولة؟!

- حتى لو وجدت، ستكون كارثة على العائلة ومذبحة للجميع... وكان محقا، فلن تكون مقاومتنا الا ضرب من الانتحار الجماعي.

كنت أتوجس المصير البائس الذي تلوح ظلاله، والحظ العاثر الذي مد لسانه هازئا... نجونا في بغداد، ومن مخاطر الطريق الى السليمانية، ومن ظروف الاختفاء الصعبة في السليمانية، ومن سيطرات الطريق الى حلبجة، لا أتذكر عددها لكنها كانت كثيرة... وفي آخر محطة قبل الجبل يمسكوننا!

ولم تتوقف وكالة أنباء الشباب والنساء... يفتشون بيت فلان المقابل لبيتنا، ثم فلان... دخلوا البيت المجاور... كنا نتحدث حين سمعنا فجأة وقع الأحذية العسكرية الثقيلة "البساطيل" على السقف، الذي كان يهتز من ثقل خطوات العسكر، انتشروا على سطح البيت، ودخلوا البيتين المجاورين والبيوت المقابلة... ننتظر الاقتحام بين لحظة وأخرى!

لحظات ثقيلة في انتظار الموت القادم... اهل البيت، من نساء وأطفال ورجال، هدأوا متربصين، شرا أو خيرا!... ونحن نترقب الآتي بصمت غريب... أنا بدأت اهيئ روحي للأسوأ، كأنها كانت اللحظات الأخيرة من الحرية والحياة.

لا أدرى كم دامت تلك اللحظات، لكنها كانت طويلة، ثقيلة وطعمها مر لاذع... وانا انظر في عيني مام بارام خلف نظارته السميكة العدسات، لم أفارقهما، لأفهم بالإيحاء والتخاطر، ولأستمد من قوته وتماسكه شيئا... كيف سيتصرف المقتحمون معنا؟ ... هل سنفلت من أسئلتهم؟!

وبين الترقب والتوفز، دخلت احدى نساء البيت، وكانت ترابط في الباحة بين الباب الخارجي والباب الداخلي، لتبشرنا، تجاوزوا بيتنا، دخلوا بيوتا مجاورة، واستثنوا، بالصدفة وحدها، بيتنا بين قلة قليلة من البيوت... الأحذية الثقيلة على السطح بدأت بالحركة، خطوات متلاحقة، كأن سربا من الخراتيت يمشي على السطح.

طمأننا مام بارام يؤيده رشيد كبابجي بأن الخطر قد خف قليلا... ثم لحظات طويلة أخرى... جاءنا بعدها الخبر الجميل "انهم ينسحبون من الشارع". مام بارام الذي كان يجلس معتدل الصدر، رافعا رأسه مثل ديك، أخذ نفسا عميقا، ليقول بعدها "خلص"!... وتنفسنا نحن "الصعداء" بعد هم وكرب، غير مصدقين.

حين تيقن مام بارام ورشيد كبابجي من انسحاب المغاوير، تبدلت معالم وجهيهما وخرجت ضحكة كأنها ضحكة انتصار ونجاة... "الآن نتعشى براحتنا" قالها رشيد كبابجي وهو يضحك مع مام بارام، كانت عائلة كاك رشيد كريمة جدا في ضيافتها ومحبتها للشيوعيين العرب القادمين من بغداد والجنوب.

بعد العشاء وقبل مغادرته، قال لنا مام بارام "غدا ننقلكم الى بيت أكثر سرية من هذا، بقاؤكم هنا خطر عليكم". سألته متى نستطيع الالتحاق يا مام بارام... قال ان الظروف الراهنة تمنع وصول البيشمركة لحلبجة، سننتظر وندبر الأمر. ومام بارام يتحدث بثقة تجعل الآخر يطمئن. كان يملأ مركزه كمسؤول محلي، ويحظى باحترام جميع من حوله.

طيلة نهار اليوم الثاني كنا في هدوء وسكينة، في المساء جاءنا مام بارام، نشاطه ورفاقه يبدأ بعد المساء، كانت معه سيارة تنتظر في الباب، نقلونا الى بيت في طرف آخر من المدينة، قال لنا مام بارام "ستذهبون الى بيت فقير الحال لرفيق يبيع الشاي في سوق البلدة، بيت غير معروف، أكثر أمانا".

بقينا في هذا البيت أياما وليال راح عن بالي عددها، مختبئين في النهار بغرفة جانبية صغيرة غير مشغولة، جعلها أهل البيت مخزنا لما زاد عن حاجتهم من أثاث وأفرشة وحاجات. يزورنا مام بارام وغالبا برفقته رشيد كبابجي بين ليلة وأخرى. تأخر أمرنا ولم تأت مفرزة أنصار نستطيع الالتحاق بهم، وليس من خبر عن قرب مجيئهم، لكن مام بارام جاءنا في ليلة يخبرنا بأن أحد الرفاق القدامى من أهل المنطقة كان في اجازة وسيرجع الى قاعدة الأنصار في "هيرتا" وسيرتب أمر التحاقنا معه. وفي الليلة التالية جاء معه هذا الرفيق، وبدأوا بترتيب أمر التحاقنا، وكان من قرية "بيارة" القريبة من حلبجة وابن أحد أعيانها.

في الفجر البارد جاء مام بارام وآخرون ومعهم سيارة جيب، جلست في حوضها الخلفي عائلة أحد الرفاق للتغطية والتمويه، نساء وأطفال، وجلس الرفيق القديم قرب السائق ونحن الثلاثة خلفهما، وانطلقنا من حلبجة قبل شروق الشمس... ودعنا مام بارام بحرارة وود بالغين، تاركا في نفوسنا أثرا طيبا لا ينسى.

ولم تخلو الرحلة من مخاطر ومغامرة، يطول حديثها، لكننا في مساء اليوم ذاته وصلنا "هيرتا" ملتحقين بفصائل الأنصار. وهناك عرفت بأن مجموعتين من الرفاق العرب، وربما ثلاث مجاميع، سبقونا بذات الطريق الذي جئنا منه، وبتدبير نفس الرفاق، "مام بارام" ومنظمة حلبجة، وبعدنا بأسبوعين وصلت مجموعة من أربعة رفاق عرب، ثم أخرى وأخرى... وهكذا التحق العديد من الشيوعيين العرب من بغداد ومحافظات الوسط والجنوب، عن طريق حلبجة ومنظمتها وعوائل الرفاق هناك، وكان "مام بارام" هو المنظم والمسؤول عن كل هذا بالتنسيق مع التنظيم المحلي في السليمانية من جهة والرفاق في قاعدة هيرتا من جهة أخرى... أنقذوا حياة الكثير من شيوعيي الوسط والجنوب، بشجاعة وكرم وبروح التضامن النضالي التي كانت سائدة.

الذكر الطيب للمناضل العتيد "مام بارام" الذي رحل عنا في آذار الماضي.