قضية إلتحاقي بحركة الانصار، كانت بالنسبة لي تمثل حلم، هو حلم العودة الى الوطن.. العودة الى ساحة العمل والنضال.. العودة الى الناس والاتصال بهم. هذا الحلم الذي كنّا نغذيه بتمنياتنا واحاديثنا اليومية، ونغذيه ايضا بخططنا ليس فقط كحزبيات وانما كرابطيات هاهو اليوم قد تحقق. اتذكر كنت اعيش مع الدكتورة نزيهة الدليمي وكنّا دائما ما نفكر بكيفية اعادة تنظيم رابطة المرأة العراقية بعد ان تعرض الى حملة قاسية من قبل النظام واجهزته الامنية، فالرابطة لها اهمية خاصة باعتبارها وسيلة مهمة من وسائل الاحتكاك مع الناس وقاعدة لتجمع النساء وتعبئتهن من اجل النضال في سبيل تحقيق حرية المرأة التي صادرها النظام الدموي. لقد كان خبر الموافقة على إلتحاقي بحركة الانصار بمثابة فرحة كبيرة، والذي تزامن مع فرحة اخرى وهي التحضيرات والتهيئة لانعقاد المؤتمر الرابع للحزب.

وصلت خلال فترة وجيزة عن طريق ايران الى كردستان، بعد عدة سنوات من الغربة الثقيلة في الخارج. فقد كنت خارج العراق منذ عام 1972 في مهمة حزبية، وبقيت هناك حتى اواخر تشرين الثاني 1985 حيث وطأت قدماي ارض العراق، فكان وجودي مع رفيقاتي ورفاقي في هذا الموقع الكفاحي يمثل الخطوة الاولى في أن اسمى نصيرة، لكني لم أكن أفكر بأن ألتصق بالكفاح المسلح كأولوية بقدر ما كنت مهتمة بالعمل بين الناس وكيفية الصلة بهم كمهمة اساسية بالنسبة لي حيث كان حلمي تحقيق قضية كبيرة وهي قضية تعبئة النساء وتحشيدهن من اجل المساهمة في عملية اسقاط النظام.

إلتحقت بفصائل الانصار في نهاية تشرين الاول 1985 حتى 1988 حيث توقفت الحرب العراقية الايرانية. هذه التجربة لاتزال تشكل بالنسبة لي الالفة الانسانية الحقيقية التي مازلت اشم عبيرها في داخلي، فالحركة الانصارية بما تمثله من رقي في العلاقات الرفاقية والانسانية التي تربطنا مع بعض، من المستحيل ان تتحقق على ارض الواقع اليوم. انا كنت في قاعدة خلفية في وادي (خوا كورك) ومنه ذهبت الى منطقة (بيربنان)، وانتقلت ايضا في سفرة محددة الى (بهدينان)، حيث قطعنا مسافات طويلة مشيا على الاقدام، وخلالها شاهدت القرى المهجرة التي تحولت الى اطلال نتيجة الخراب والتدمير الذي تعرضت له، كما رأيت الاهالي وهم يتلهفون للحصول على ادوية او زرق الابر، وكانوا يبتهجون اذا ما عرفوا انّ مع المفرزة طبيب او طبيبة، كما كانوا يستغربون بوجود نساء في حركة الانصار. لكن انا باعتقادي ان وجود النصيرات في حركة الانصار التي قادها الحزب الشيوعي العراقي (خاصة وانهن جئن من مدن العراق المختلفة)، اعطى للحركة رقيا وتميزا لم تصل إليه اية حركة انصار سابقة. صحيح ان الامر صعب للغاية، فاني بلا شك كنت ألهث وأتعب عندما اصعد الى قمة الجبل، لكني اشعر انّ هذا هو الوطن وهذا هو الطريق الذي سلكته طوابير من المناضلات والمناضلين، فوجود النصيرات هو اغناء للتجربة بما جسدته من علاقات وعمل مشترك وتقاسم الصعوبات والادوار. كنا نتشارك الاكل والمهمات وبساطة الحياة من دون ان تحتل النقود اية اهمية في تفكيرنا وتصرفاتنا، بل كانت تجمعنا ارقى الوشائج التي لا يعكرها الا سماع اخبار استشهاد او جرح رفيق او تعرض القرى والمدن الى الهجوم بالاسلحة الكيمياوية.

في هذه المنطقة البعيدة والمقطوعة عن العالم، يعيش شباب محروم من ابسط مستلزمات الحياة الاعتيادية، الى درجة وبسبب حداثة وجودي بالحركة، فاني كنت اتطلع الى الطبيعة وأتأمل الاشجار والوان الغروب، وبالمقابل فان هناك من يقول لي من الرفاق ماهذا البطر الذي انت فيه. لكن مع ذلك كانت الايام تسير وكان الوقت يمضي بالكثير من الابتكارات الانصارية مثل الامسيات الثقافية والحفلات والغناء والتجمعات وخاصة مناسبات الزواج او مناسبات الاعياد الحزبية والوطنية، فكنا نوفر حياة مفرحة ومبهجة ونأخذ الامور بروح عالية وبروح من التحدي خاصة ان الشباب الانصار هم من الفئة المثقفة التي تركت مباهج الحياة والتحقت في الجبل من اجل قضية نبيلة، فاتمنى ان يوثق هذا التاريخ للشباب الذين كانت لهم ادوارا كبيرة في الحركة الانصارية. ولكن لابد من التاكيد في هذا المجال على الدور المميز للنصيرات داخل حركة الانصار، فلهنّ توهجهنّ الخاص بمشاركتهن في جميع المهمات سواء كانت العسكرية منها او الخدمية او الجماهيرية، حيث كن يقومن بالمهمات اليومية التي نطلق عليها اسم (الخدمة الرفاقية) من طبخ وخبز وتحطيب وغير ذلك، ثم التجول في القرى وتقديم المساعدات الطبية للاهالي وتعبئة الناس وجمع التواقيع للاحتجاج على التهجير والتدمير الذي طال قراهم.

وبالعودة الى فترة ماقبل التحاقي بالانصار، فعندما بدأت الحركة المسلحة في كردستان، بدأنا نحن ايضا بالتحرك من اجل اعادة تنظيمات رابطة المراة العراقية، وقمنا بتحشيد الكادر من اجل انعقاد المؤتمر الرابع للرابطة، وفعلا تم ذلك، حيث انعقد المؤتمر في نيسان 1981 في بيروت وحضره عدد من الرابطيات الكوادر اذكر منهن الشهيدة ام لينا التي كانت تستعد للذهاب الى كردستان، وكان هذا من ضمن مهام وتوجهات المؤتمر، وهو ايجاد ارضية للعمل في الداخل وتشجيع الرابطيات على العودة، فحققنا بعض النتائج على الرغم من صعوبة العمل السري والضربة التي تعرض لها التنظيم. كما عملنا على اصدار (نضال المراة) بشكلها الجديد وحجمها الصغير، واصدرنا ايضا كتيب لازلت احتفظ بنسخة منه تحت عنوان (نضال النساء تحت الانظمة الفاشية) تناول عدد من تجارب النضال في اوربا الشرقية، واستطعنا كذلك ان نمد الداخل بوريقات حول نضال المراة واسم الرابطة والكفاح ضد الفاشية، وكان العمل في  ظروف صعبة جدا ومؤلمة جدا خاصة عندما يتم اعتقال او اختطاف او تغييب بعض الرفيقات.

شكلت مشاركة المرأة في الحركة الانصارية للحزب الشيوعي العراقي تجربة فريدة من نوعها، صحيح كان للمراة الفلسطينية دور في الكفاح المسلح، لكن التجربة العراقية تتميز بالكثير عن غيرها، فالغاية من وجودها ليس فقط  المشاركة بحمل السلاح وانما البحث عن كيفية ايجاد صلة مع النساء في الداخل، وتحريك قضية حقوق المرأة وليس فقط اسقاط النظام، وهذه مسالة هامة جدا، اقول ان تحركنا لم يكن حزبيا صرفا بل مرتبط بقضية اجتماعية هي تحرير المراة وقضية الطفولة والنضال من اجل تحقيق الشعار الذي رفعته الرابطة في ذلك الوقت (المساواة للمراة والسعادة للطفولة في عراق ديمقراطي).

اما عن انسحابي من كردستان الذي تم على مرحلتين، فبعد ان توقفت الحرب العراقية الايرانية، بدأت القوات تهاجم مناطقنا في (بيربنان)، فتقرر انسحابنا الى مواقع خلفية. اتذكر تلك الظهيرة القائضة، كنا نمشي من دون ان نعرف الى اين، وماهي الوجهة القادمة، وماهو قرار القيادة؟، وكنت غاضبة جدا من ذلك، واتذكر عندما وصلنا الى مكان استراحة قرب مجرى نهر صغير، وبينما كانت القيادة تتداول فيما بينها، وضعت راسي بالماء وغسلته بالشامبو امام الجميع كطريقة احتجاج على حجب المعلومات عنا.

استقرينا لعدة ايام في منطقة بعيدة على المثلث الحدودي، وكنت في احد الايام اقوم مع رفيقة اخرى (بالخدمة الرفاقية)، فجاء احد الرفاق وطلب منا الاسراع في الانسحاب لان القوات تلاحقنا، وهذا ايضا كان مصدر غضب ومرارة وتساؤل: لماذا يريدون التخلص من النصيرات، ولماذا هذا الشعور بان الرفيقة في كردستان تشكل ثقلا على الاخرين في حركتهم. الحقيقة هذا الموقف ليس فقط اغضبنا بل ابكانا بكاء مرا، لكن بالرغم من تمسكنا باالبقاء، فأنّ قرار انسحابنا كان حاسما، فتحركنا وسلكنا طريقا طويلا حتى وصلنا الى احدى القرى الكردية، واستبدلنا ملابس البيشمركة بملابس قروية، ونمنا متحاشكات بالقرب من زريبة الاغنام التي كانت فضلاتها حولنا. انّ ما آلمنا اكثر بالاضافة الى الانسحاب هو الاخبار التي وصلتنا عن استشهاد عدد من الرفاق، ومنهم الرفيق مام علي وهو ايراني، لكنه كان معنا وكان شعلة من الحيوية والانسانية. هؤلاء الشهداء كانوا ومازالوا يشكلون جذوة من الحب ومصدر الهام في حياتنا.

من الاشياء التي تركت تاثيرها عندي هي مسالة الكلاب التي كانت تعيش معنا، فاتذكر الكلبة (كريشتا) التي تشعرك بالألفة والآمان بالرغم من نظرة بعض الرفاق للكلاب، لكن بالنسبة لي كانت جميلة ودفعتني الى الاهتمام بالكلاب فيما بعد.

ومن القفشات الاخرى، وصل خبر عن مجيء نصيرة تلبس التنورة، فراح الانصار يتأنقون كثيرا ويهتمون بمظهرهم، وهذا امر طبيعي في هذه العزلة التي يصعب على الشاب ان يرى وجها نسائيا. كانوا يتساءلون كيف تأتي الى الجبل بتنورة!، وعندما وصلت النصيرة كانت المفاجأة الاخرى انها إلتحقت مع زوجها!..

جريدة النصير الشيوعي العدد 14 أيلول 2023