في بداية السبعينات من القرن الماضي، حدثني الشهيد "خالد يوسف متي" كثيرا وطويلا عن "توما توماس"، كان يرى فيه بطلا شعبيا وقدوة نضالية ومفخرة لحزبه ومدينته القوش، وفي الثمانينات تعرفت به وجمعتنا حركة الانصار وجبال كردستان، لم يجمعنا عمل حزبي مباشر الا في الأيام الأخيرة من حياته حين قدمت من شقلاوة الى مدينة القامشلي مكلفا بمسؤولية مكتب الحزب فيها لفترة قصيرة، عقب اجتياح الحرس الجمهوري لمدينة اربيل في نهاية شهر آب عام 1996، وكان الفقيد مسؤولا عن العلاقات السياسية في القامشلي ويقيم في بيت ابنه "حكمت"، الرفيق الرائع والانسان الطيب. هكذا قدر لي ان اعيش مع الفقيد أيامه الأخيرة. وما سأكتبه ليس تقييما لشخصية معروفة، بل شهادة ومعلومات ووقائع الأيام الأخيرة من حياة هذا القائد الشيوعي البارز والانسان الفاضل.

لم يكن في مدينة القامشلي حينها الا بضعة رفاق، ابو جوزيف وابو أفكار وجعفر وحكمت وأنا. كنا نقضي الأيام سوية، وكان علينا ان نزور مقرات الاحزاب الكردية والعراقية في المدينة ومقر مسؤول الفرع العسكري السوري فيها، لتوضيح ما حدث في كردستان وشرح موقف الحزب مما حدث.

كانت سيطرة قوات الحرس الجمهوري على اربيل بالتنسيق مع الحزب الديمقراطي الكردستاني ومشاركة قواته مع قوات النظام، صدمة نفسية وسياسية كبيرة للفقيد "ابو جوزيف"، لم يتقبلها وتعامل معها كأنها نكبة اصابت أهله وشعبه. أتذكر عباراته في الاستغراب مما حدث "هل جن مسعود البرزاني ليقدم كردستان على طبق من ذهب لأعداء شعبه؟. هل من المعقول ان يضحي بعشرات السنين من النضال والتضحيات والشهداء لأجل مصالح حزبية في صراعه مع جلال الطالباني على السلطة؟". كان يرى في ذلك غباءً وجنونا سياسيّن لا يغتفران.

وفي الحياة اليومية كان مشغولا كليا بأحداث وأخبار كردستان، مأخوذ بها، كأن الصاعقة نزلت على أهل بيته وعائلته الشخصية، وليست فقط احداثا تخص البلاد والعباد. جدول نشاطه اليومي يبدأ منذ نهوضه المبكر صباحا، مع الراديو الصغير الذي كان قرب وسادته حين لفظ انفاسه الأخيرة، يستمع الى اذاعتي الحزبين الكرديين المتقاتلين واذاعتنا واذاعات المعارضة ثم أخبار الاذاعات العالمية، لندن وامريكا تحديدا. يخرج من منزل حكمت الى مكتب الحزب ليطلع على برقيات الاتصال اللاسلكي الصباحي الواردة من مركز الحزب في شقلاوة، ثم يذهب الى مقري الحزبين الكرديين، البارتي واليكتي، ليطلع على أخبارهما الخاصة، يعود الى المكتب قبل الظهر بسلة أخبار ومعلومات، ليبدأ النقاش والتحليل والاستنتاج والاحكام، بأعصاب مستفزة، فأخبار تلك الأيام كانت سوداء. بعد فترة الغداء واستراحة الظهيرة يعود الى المكتب ليعيد دورة الصباح في المتابعة والاستقصاء ومعرفة الأخبار، والنقاش الحامي. وبعد خروجه من المكتب في الليل تكون مائدة الحديث والنقاش ساخنة على آخرها مع أصدقائه ومعارفه في بيت ابنه حكمت او الصديق والرفيق السوري طيب الذكر "ابو النور" أو صديقه "ابو عثمان". يندر ان ترى مناضلا ينشغل بأحداث وأخبار شعبه بتلك المشاعر الحميمة، لا يمل ولا يكل ولا يهدأ في الحديث والنقاش في الموضوعات ذاتها وفي مجريات الأحداث بكردستان، وبأعصاب متحفزة تثير الخوف على صحته، منكوب بمصاب جلل، حتى ان صديقنا السوري بالغ الطيبة والنبل "ابو النور"، طلب مني أكثر من مرة ان اتحدث مع الفقيد كي يهدئ حاله حرصا على صحته وخوفا عليه من تلك الانفعالات. حين تحدثت اليه ورجوته ان يخفف من انفعالاته وحرارة انشغاله خوفا على صحته، سمعني بتأني وأجابني بعد نظرة شاردة "ما حدث ويحدث شيء مهول".

وفي موازاة كل هذا وارتباطا به، كان ثمة موضوع شغله كثيرا وسبب له من الألم ما لا يعرف. كان قد اتخذ موقفا شخصيا فور لقائنا الحزبي الأول في القامشلي، عقب سماعه تفاصيل ما جرى من شاهد عيان على الأحداث، ومعرفته بموقف قيادة الحزب واجراءاتها الاحترازية، قرر أن يعود الى كردستان، شقلاوة تحديدا، ويضع نفسه وامكاناته تحت تصرف القيادة. كان يرى ان مكانه الصحيح في تلك الظروف هناك وليس في القامشلي. كتب رسالة الى مركز الحزب في شقلاوة يطلب فيها الموافقة على ذهابه اليهم لمساعدتهم. جاء الرد من سكرتير اللجنة المركزية بعدم الحاجة لمجيئه وان المركز بصدد تقليل عدد الكوادر المتواجدين في شقلاوة ضمن اجراءات الحيطة والسلامة. ومع الرد كانت هناك توصية لي بأن اقنعه بالرد وبأن الرفاق القياديين الموجودين هناك يغطون حاجة العمل القيادي للحزب ولا ضرورة لذهابه اليهم، وأن أقنعه بمهمة الذهاب الى امريكا، تلبية لدعوة كانت وصلته قبل الأحداث، لينقل الى الرفاق هناك والجالية العراقية تفاصيل الأحداث وموقف الحزب منها.

كان متحمسا للذهاب الى كردستان والتواجد حيث مركز الأحداث والحزب، ويعتقد ان الحزب يحتاج الآن الى تشخيص مقرات احتياط في الجبل وتهيئتها بما يلزم، تحسبا لاحتمالات تطور الأمور، وأن لا ضمانة لعدم تقدم قوات النظام نحو شقلاوة وباقي انحاء اربيل، وفي حال اضطر الحزب الى اللجوء للجبال فان وجوده سيكون مفيدا جدا. كنت ابلغ الرفاق في شقلاوة برأيه ورغبته، ويأتيني الرد ذاته، بأن يبقى في القامشلي وان ننشغل بمهمة اللقاءات بالأحزاب وممثلي الحكومة السورية في القامشلي.

في تلك الأيام ناقشنا كثيرا هذا الأمر، كانت لديه رغبة جامحة في العبور الى كردستان ومعايشة الأحداث والمساهمة في الاجراءات اللازمة لمواجهة الاحتمالات الصعبة، وحين ابلغه بموقف المركز كان يتصرف بروح حزبية احترافية عالية، بل بروح عسكرية كأنه ضابط يخضع لأوامر هيئة الأركان، لم يخطر في باله ان بإمكانه، في أي لحظة يريد، ان يتوجه الى الحدود ويعبر الخابور نحو كردستان، ضاربا بقرار المركز عرض الحائط.

لكنه في قرارة نفسه كان يعاني الكثير، وكنت أشعر بتفاصيل معاناته وعمقها، وأحس بما في خاطره. كان يرى انه ما زال مهما للحزب ولعمله القيادي رغم كونه خارج اللجنة المركزية، وبإمكانه تقديم خدمات متميزة في تلك الأزمة، التي تمر بها كردستان والحزب، وان مكانه في قلب الأحداث بكردستان، وليس القامشلي، ومسؤولية العلاقات فيها، كانت القامشلي ومهمته فيها صغيرة عليه، ضيقة، لا تتناسب مع ما عنده وما يمكنه.

حين ابلغته بتوصية ذهابه الى امريكا وكندا وتلبية الدعوة لزيارتها، أجابني "ماذا أفعل في امريكا؟. مكاني ليس هناك"، كان يرى مفارقة لا يريد هضمها، ان يندلع لهيب الأحداث في كردستان بذلك الزخم، ويكون عليه ان يعطيها ظهره ويتوجه الى امريكا، ليشرح لرفاق الحزب وجمهوره هناك ما جرى ويجري وموقف الحزب، كان يرى ان المنطق النضالي، الذي نشأ عليه، يؤشر نحو كردستان والوطن وليس الى آخر الدنيا. وربما كان يريد استئناف دوره كقائد حزبي وانصاري الذي شعر بأنه ضعف كثيرا بوجوده خارج اللجنة المركزية، وكان الفقيد في المؤتمر الوطني الخامس للحزب، مع رفاق قياديين آخرين، قرروا عدم ترشيح انفسهم للجنة المركزية لفسح المجال امام تجديدها بدماء شابة، ضمن نهج المؤتمر في الديمقراطية والتجديد.

كتب رسالة أخرى، كرر فيها طلبه، وتكرر ذات الرد من شقلاوة، وأخذ هذا الموضوع كثير من نقاشاتنا الثنائية، كنت ابلغه بما يرد وارى وأسمع وأشعر بمرارة موقفه.

وبعد أكثر من شهر على اجتياح أربيل، توضحت مجريات الأمور في كردستان، قوات النظام العسكرية اخذت تنسحب تدريجيا، وبقي وجود أمني واستخباراتي بالتنسيق مع البارتي الذي سيطر على اربيل، بعد اعتقال القوات الأمنية الحكومية لأكثر من ألفين من معارضي النظام والعساكر الهاربين من الجيش وغربلة أربيل من وجود العرب، العراقيين، ومن المعارضين للسلطة. واقترب موعد سفر الفقيد الى امريكا حسب الدعوة المسبقة من هناك، وكان على ما اذكر يوم 15/10/1996، اي يوم وفاته، وربما اليوم الذي يليه، الا انه كان عليه الذهاب الى دمشق صباح يوم 15، لغرض السفر جوا منها الى امريكا.

الليلة الأخيرة مع الفقيد

كان خريف القامشلي في ذلك العام جميلا بامتياز، مساء هادئ رطب وأنسام تنعش الروح، خرجنا سوية، في حدود الساعة الثامنة مساءً من مكتب الحزب، هو وأنا، نحو الشوارع الهادئة نتمشى ونتريض ونتحدث، بعد وجبة الأخبار الأخيرة وموعد الاتصال اللاسلكي المسائي مع شقلاوة. كان مساءً لا تفقده الذاكرة لجماله المؤلم وذكراه الحزينة، بقينا نتمشى ونتحدث الى ما يقرب من منتصف الليل، تحدثنا كثيرا وتعمدت ان اخرج عن مواضيعنا اليومية الملتهبة، حدثته عن صديقي الشهيد "خالد يوسف متي"، عرف عائلته فورا " بيتهم في محلة سينا" وتذكره صبيا صغيرا، وحدثني عن جوزيف ابنه. في تلك الأيام ولكثرة لقاءاتنا اليومية وتواجدنا معا أغلب الوقت، وما وجده في سلوكي الودي واحترامي الشديد له ولنضاله ومكانته، اقتربنا من بعض شخصيا، ورأيت وجهه الحقيقي، وجه الانسان الذي كان يخفيه قناع القائد الأنصاري والحزبي، كان أبا حنونا على ابنائه، يعتز بهم ويهتم لشأنهم كثيرا، وانسانا مشحونا بعواطف جياشة يسترها قناع شخصية القائد التي اعتاد عليها، الحزب عائلته الكبيرة والشيوعية قضيته الأبدية. كنت أسير برفقة تاريخ ثري من النضال في ذلك المساء المفتوح الأفق، لا أنسى مهابته واتزانه وسيره المتئد، مراعاة لبطء خطوتي قياسا بسرعة مشيه. في ذلك المساء خدش الرسميات وتحدث الى أحد أبنائه المناضلين بقلب مفتوح، وبعض الحديث كان اقرب الى الفضفضة. بعد ما يقرب من ثلاث ساعات من السير المتواصل رجوته ان نعود لأني تعبت، ضحك ساخرا من تعبي "شلون شباب انتم؟... وشلون راح يتجدد الحزب بيكم؟... شنو تعبت؟!". هو لم يبدو عليه أي تعب، كانت لديه القدرة على البقاء ماشيا الى ما لا نهاية، بكامل صحته ولياقته البدنية، منتصب القامة ينظر الى الأمام دائما.

كان غير مرتاح لسفره الى امريكا في تلك الظروف، ومن التوصية بسفره اليها... "ايش أسوي بأمريكا؟" كررها مرارا. حين حاولت تهوين الأمر عليه، بأن تغيير الأجواء سينفعه ويخفف من آثار الأحداث التي هزتنا، رد علي بما لا أنساه:

"والله... كأني ذاهب الى الموت وليس الى امريكا"، وكررها قبل افتراقنا.

في تلك الليلة، والايام التي سبقتها، أحسست بألم دفين في داخله، لم يتحدث فيه صراحة، كان يشعر كأنه جرى الاستغناء عن خدماته في الحزب. شعورا يعرفه من أفنى حياته في النضال الشيوعي وفي العمل القيادي، ويجد نفسه في النهاية على الهامش. مرة قال لي، ان الحزب يحتاجه الآن، واحتمالات تطور الأحداث تتطلب تشخيص مقرات احتياطية في الجبل، وهو يعرف المنطقة والجبال جيدا. حين قلت له ان فلان وفلان موجودين وقد كلفا بجولات استطلاع وتحديد أماكن تصلح مقرات احتياطية، أجابني بهدوء وثقة عالية "ليس مثلي"... كان يعرف قيمة نفسه التي شعر ان الآخرين غفلوا عنها.

اللحظات الأخيرة لجولتنا، قرابة الثانية عشر ليلا، كانت مشحونة بعاطفة لم أفهمها، وصلنا الى مقربة من بيت ابنه حكمت ومن مكتب الحزب، وصار علينا ان نفترق، تمنيت له سفرة مريحة وموفقة، على أمل ان نلتقي صباحا أمام مكتب السفريات لتوديعه الى دمشق، وكان قد حجز مقعدا في احدى منشآت السفر، موعد انطلاقها في التاسعة صباحا... وقفنا نتحدث، لم يكن متسرعا في الذهاب الى بيت حكمت، حين قلت له تصبح على خير، ردها علي بتأني وهو يصافحني بهدوء وبرود.

في الخامسة والنصف من فجر اليوم التالي، 15 تشرين الأول، كنا نغط في نومنا داخل غرف مكتب الحزب، ابو افكار وأنا، حين سمعنا طرقات شديدة على باب المكتب، عند خروجنا وجدنا رفيقنا وصديقنا السوري "ابو النور" يقف مرتبكا ومرعوبا "ابو جوزيف يشكو من رأسه، على الغالب انفجار في الدماغ او جلطة، اما تدركوه او لا تلحقوا عليه!!"... تراكضنا لنغير ملابسنا ونأخذ سيارة المكتب لنقله الى المستشفى. حين وصلنا كان قد ودع الحياة. اسرعت الى غرفته غير مصدق، كان ممدا على سريره والراديو الصغير قرب وسادته... لحظتها لم أتمالك نفسي. هزتني الفاجعة، أن يموت الرجل الذي كان قبل ساعات بكامل صحته وقوته ونشاطه، لا يشكو شيئا من صحته أو بدنه.

هكذا ذهب "توما توماس" الى الموت، وليس الى أمريكا... كما قالها قبل يوم.