سليم الوجه واليد واللسان، عفيفاً، دائب الحركة، مابين تحطيب الاشجار وبين جهد الكتف التي تحمل الاوصال الثقيلة من قطع الخشب الرطبة، قريباً من الموضع، صخور الغرف الطينية تراه فتعرفه هو من حملها من امهاتها، سفوح الجبال، ومعالجة بنائها بالطين اللزج، بتؤدة وبطء رتيب، يضحك ما حوله من الرفاق الجادين بحمل أدوات العمل، الحالمين بسرعة الانجاز قبل حلول ايلول والمطر المبكر. يتقن بهدوئه المميز، وضع وسادة الطين كي تصبح مخدة للصخر النافر. كل ضحى ووجهه باتجاه الشمس، ينظف ويزيت سلاحه ويتركه الى جانبه منتصباً لمّاعاً، يهرع لمساعدة الاداري الذي تكتنف كل حركاته غموض المهمة ويعينه برصد الحسابات والارقام، كان يعرف موقع الارقام وامتداد جذورها في الصرف والادخار، وعندما تتراكم عشيرة الارقام بكل ضجيجها، ثم تعوم واضحة عكس تيار المفردات التوضيحية الملتبسة التي تخنقها، يعدل من هفواتها، ولا يتحدث بهذه الاسرار أبداً، وكانت غرفة المسؤول راكدة كالماء الآسن يود في داخله، لو حركها مثل دولاب الناعور في مدينته كربلاء، حتى يسح ماؤها صوب بساتين الرمان المثقلة بكنوزها.. وجهاً بلغت منه النحافة حدا حتى استطال وبرز حنكه كمعلم واضح لهويته، يحلق وجهه كعسكري منظم، نظيف الهندام وحذاؤه لا يفارقه إلا في المنام مثل سلاحه.

مرة قلت إن ماركس أكثر الفلاسفة ممن تحدثوا عن النقود ورأس المال، لكنه مات فقيراً، محتاجاً لها، وكان عندما تضغط عليه حاجة العائلة، للخبز والحليب، يستل رزمة من أوراق مكدسة، يعطيها لزوجته، فتبيعها للصحف التي لا تعرف الرحمة.. كان سليم يضغط على ياقة معطفه الكاكي، بأصابع متشنجة، ولم اعرف ان لديه علاقة مودة وحب للارقام وارشيف الحسابات اليابسة، الجليدية، حسب تعبير ماركس.

كنت اتوقع انه رفيق عسكري، غادر المعسكر، يحمل خيوطاً معدودة على زنده، وكان توقعي يستند على شروحاته، العسكرية المضبوطة، فعندما يشرح لنا كيفية استخدام القاذف B7. كانت شروحاته مثل أي عريف مدرب... هنا فوهة السبطانة التي قطرها كذا وطول جسدها كذا ومدى القذيفة 500م ثم تهمد وتموت حرارتها وينبه بصوت هادئ في ظهيرة أحد الايام ونحن على سطح غرفة الفصيل الأول  في قاعدة هيركي، عليكم الانتباه عند التصويب، المكان المتوقع للتصويب 12 م. وحاذروا من الهبة النارية التي تنطلق بعد سحب الطارق، انها تميت الذي وراءها مباشرة، كان عريفاً دقيقاً، مولع بالارقام وإحصاء المسافات وكان يحفظ ما تعلمه عن تاريخ السلاح وكيفية استخدامه، بلغة المعلمين الاوائل  الذين يطلقون القاباً وألفاظاً على الأسلحة وهم في حالة من الغيبوبة والانسجام الكامل حد الحلم، فيتركون المصطلحات والارقام على صفحة الذاكرة بهدوء واعتزاز، وكنا نضحك ونتبادل مصطلحات الرفيق سليم بعد أن نحملها ونثقلها بمداليل كثيرة، ولكننا عندما تحين فرصة تعليم آخرين جدد، نستخدم المصطلح بدقته وبنفس اصرار لغة الرفيق سليم الكربلائي.

هل تستطيع أن تستحضر الوجوه التي تترك على جبينك علامات الدهشة والسؤال في تعاملهم مع الرفاق أو مع بسطاء القرى الطيبين، وأنت تتكىء على تأريخ من التواضع والهمة والتضحية ونكران الذات... الكل يغيب في هذه اللحظات، وتشرق عيناك محملتان بالنضج وقدرة التدقيق والفحص، وتمييز الوجه المعافى من الوجه الذي تحتل صفرة الجوع والحرمان وذاكرة النهر عليه.. انه الانتظار الذي يكتنزه صدر الزائر إلى عتبات مدينتك، فحينما يصل الابواب العريضة، الملتهبة، بالذهب والالفة والطمأنينة، ينتحب ويلوذ في الزوايا، يتدارك دمعاً مفاجئاً، لا تمنعه رجولة أو احتشام الاعراف في تقاليد القرى الصارمة.. إنه انتظار المزارع حينما يرى النخلة محملة بثمارها، يهش البق والنغمش وهوام البساتين، بسعفة خضراء ويد متمكنة وهو ينظر إلى غيمات طويلات الذيل تتراكض على صفحة من سماء قريبة من القبة الذهبية الراسخة.

وفي ظلمة الليل، يحمل المتاجرون بالدم وعلى عيونهم تلمع شهوة النقود، يحملون قذائف للبيع، فتدرك ايها الوجه السليم كم هي المحنة في هذه الامكنة والمساحات المحاطة بالجبال حيث الذخيرة الطيبة، تبتعد وترقد عبر النهر القديم، العريض، في مخازن عديدة، عليها حراس من رفاق مترهلون، ذخيرة تأتي مع أحلام الذي يحملونها عبر الطرقات والقمم والسفوح الحادة، فعندما تفحص ذخيرة الدم والنقود والغش المعلن تكتشف بأنها ذخيرة مباعة، مقابل النقود، ذخيرة تحتاجها الآن وليس بعد غد، هي ليست الذخيرة التي يغطيها عرق الاجساد التي تخوض موج النهر بأطواف من أغصان الشجر المربوط بالحبال.

وفي العمادية والمدينة تلتصق بالجبل وتشع عيونها لامعة من شبابيك متوزعة صامتة، تفاجئون بأمعات النظام، وترفعون قاماتكم بقذائف مطعونة بالغدر والغش، فيتحدث الحديد المتناثر بعد أول اطلاقة عن اندهاش الوجه السليم، وتتبعثر اسئلتة في المسافة مابين العيون المشتعلة في جبل العمادية وبين حجرة المسؤول الساكنة مثل ماء آسن.

حدثني الصديق أحمد بهديني من العمادية، انهم غدروا بالرفاق في قرية "ابراهيم زلا "جنوب العمادية بمسافة 2 كم.

كما اخبرني بأن القذائف التي تم شراؤها من التجار كانت فاسدة.. أو ان هناك شيئا آخر لا يعرفه!!؟ استشهد الرفيق عبد الرزاق خضير عباس من مواليد كربلاء عام 1954، هذا ما مكتوب على شاهدة قبره في قرية (هافينكه) التابعة للعمادية.

من كتاب الوجوه للنصير الراحل علي جاسم شبيب (ابو بدر)

النصير الشيوعي العدد 18 السنة الثالثة كانون الثاني 2024