تتساقط ندف الثلج الكبيرة وتترسب طبقة رقيقة على أغصان الأشجار والنباتات البرية وعلى أكتافنا، وكانت (الجمادانيات) فوق رؤوسنا ونحن الثلاثة نبحث عن مغارة في شتاء 1981 في (وادي ميرالنة)، فصار صاحبي البيشمركة أبيض تماما وهو يتحرك بتثاقل على ضفاف جدول رقراق، وجد ضرورة نفض الثلج عنه  فاستدار ووقف قبالتي وقال: - من المستحسن نفض الثلج..

    فأجبته: - لم يبق إلا القليل من الوقت وسنصل الى (الشكفتة)، كنت أرى رموش عينيه قد غطاها الثلج  فتساقط من إثر حركة ذراعيه وكتفيه طبقات من الثلج  وأراد أن يحرك شفتيه ثانية ليقول شيئا،   فلم يخرج من شفتيه سوى فحيح، فسألته:-كيف الشتاء هنا ؟!

     لوى فمه بابتسامة ووتر حنجرته ونفخ  وقال: أشعر بجدوى الشعر هنا!

    ثم استدار بجسده كله، وقال: - سأقول لك شيئا منه في المغارة…

فاجأني ذلك لأنه كتوم على شعره ونادرا ما يقرأ لنا منه، فقد كان يقطف وردة نرجس بين أزهار عطرة في ربيع زاه من سفح جبل يجري تحته الزاب الكبير الصاخب وحفظها في ذهنه كصورة ساحرة أخاذة  خلبت لبه في لحظة لا تتكرر مهددة بالدمار والاحتراق من قبل جيش الدكتاتورية، حدثت أشياء كثيرة في قرى كردستان حيث سفوح الجبال اشتعلت بلهيب النيران، فهو من تلك القصص التي احترقت شخصياتها دون ذنب ولم تكن مصادفة أن يصنع شعره بل أرست عنده وفي التاريخ قصص شعب عانى وتعذب كثيرا، وهو على الأرجح الآن مستغرق في التفكير ويدمدم وهو يتنهد بارتياح وفي رعشة صوته الداخلي تنبعث طقطقة من شفتيه، كما لو أنا أستمع إليها في غاية الذهول والدهشة، ومن جديد يصبغها الثلج باللون الأبيض وتمر ساعة وأخرى حتى وصلنا الكهف وأنا أرغب في الحديث معه،   أرغب أن يحدثني عن السنوات التي مر بها، تلك الحياة الكئيبة الموحشة الغارقة بالخوف. فرحنا نجمع الحطب وبذلنا جهدا في البحث عن جذوع البلوط اليابسة المهشمة، فأوقدنا النار وتسلل الدفء إلى أجسادنا  ونزعنا بنادقنا والجمدانيات والقماصل وبدأنا بتحضير الشاي في قواطي كنا نحملها معنا في (العليجات) وتلمسنا الدفء  وانتابتنا راحة لا مثيل لها، أخرج صاحبي دفترا وراح يقرأ الشعر بهدوء:

لابد لي أن أفكر في الدوامة المليئة بالأضواء

في الصخب المتواصل والناس الراكضين

عندي رغبة في الحياة ، في توازن الزمان

عيناي في ضمور أرعاهما  وأرعى الدماء،

الدموع تترقرق في عيني صافيتين

عينان فيهما ظلال الألم  والخوف  والموت..

أذود عنهما قدر المستطاع  هذا هو الألم

لا ينقصني شيء سوى الأمان .. سوى ركام الأحزان

أنا هنا في أمان ..  جسدي كامل لا ينقصه شيء

ربما هي تنظر إلي .. وأنا أراها في ثوب العرس

الجبال البيضاء .. الأشجار البيضاء ..

حتى دائمة الخضرة بيضاء

الحياة هيئة روح  .. انتبه إليها

أصطدم بها لأراها : الجبال .. الوديان ..  الأشجار

ساكنة فيها نبض من روح و نبض من حياة

فيها الماء الطاهر ... الإنصات الخفي

وجدائل الحب .. أحكي لها كل شيء

حتى عن سرير العرس..  متناسيا خواطري الحزينة

كزوبعة تعوي   تعصف أياد الجلاد

سأحكي لها عن رنة الحب في شفتي ..

في الماء الطاهر  .. في الدماء  .. في الأضواء

هذه رحلتي الشتوية كبيشمركة ينام في المغارات

    تلك كانت قصيدته وبواعثها الأساسية هي الرغبة في تحطيم المسافات بين ما يشارك فيه كبيشمركة   وبين التأمل، فاستغراقه في شتاء كردستان باعتباره وعي تضامني مع كل ما يتآلف معه.. فسيادة الحلم.. ونفي درجات الشكوكية هي نوع من نهاية الواقع لحلمه الأكبر بتحرر كردستان من الدكتاتورية، وهبت للقصيدة معنى وأثمرت عنده المستقبل الغارق في السريالية في وحدة الصمت مع وحدته وفيها انطواء على الذات لأن القصيدة تحمل باب الانفتاح على العالم الخارجي لتكون مرآة عجيبة للواقع تجد معالم طريقها للحلم والتحرر الواهب للمعنى – وهو الحب – و فيها بعث يومي يقود إلى إدراك النصر  في وحدة فنية وخبرة إنسانية وعقلانية و فريدة في لغتها، فقد كانت إرادة التعبير تسكنه لغة قادرة أن تشد مقاومة الدكتاتورية تجمع له أحلامه بعد أن عثر عليها في الجبال وفي الوديان وفي الشتاء البارد  وفي زهو الربيع .. حامل الحلم وواهبه، من تجدد خيال جامح لشاعر يكتشف جمالية كردستان .. وفيها معنى شامل ونهائي للتوحد مع ندف الثلج والانبثاق إلى عالم ساحر بأضواء مختلفة، وأمواج عالية   يقهر الزمن ويطمح إلى عالم مثالي يدركه في مسيرة الآلام في هويته كبيشمركة وكشاعر بكل وضوح معاني القصيدة، ونسجها من أجل الانتصار وكساها جمالا بلا رهبة صمت وضمنها تطلعات بشتى الألوان في حلم الأبدية لكردستان الفاتنة.. كانت هذه اللحظة الفريدة العابرة كفيلة أن ينطلق بشعره إلى الآخرين فلم يقبل بارتجاف العزف فبقي في وحدة الهوية كبيشمركة وشجاع  كشاعر صموت، لتضطرم النار في أعماق الآخرين حينما يسمعون كلماته التي تأسر القلب، فيها قفزات مدهشة وصفاء وعذوبة  مفعمة بقدرات فنية نادرة في تعبيرها لأنها حال الحياة ولأنها ذات الطابع التأملي وتغالب الجمود والسكون، مضفورة بأوراق الشجر ومسرورة بالحيوية والازدهار بصبر محتم اسمه النصر.. أجل عواصف أقبلت عليه وأهوال وكوارث مرت بها كردستان على يد الجلاد وهو لم يتخل عن المكان ولم يتشرد ولم تبارح خياله الأرض لأن في أعماقه فورة تجعله يتحمل المجاعة والموت والنار، ولم يتوقف عزفه في الشعر.

النصير الشيوعي العدد 18 السنة الثالثة كانون الثاني 2024