ذكريات -1 / مؤيد بهنام                                    

في احد الأيام من غابر الأعوام، استفاق وفي أعماق روحه تفيض سعادة جمة لم يألفها منذ مدة طويلة جدا، ولم يحس حينها بذلك الألم الروحي او التعب الجسدي اللذين لازماه لفترة طويلة، وتلك كانت من الحالات النادرة في حياته...أيقن أن تغييرا ما قد حدث في كيانه ، في إدراكه وقناعته وفهمه وعاطفته  للاشياء، للحياة ولربما أيضا للكون.

أدرك أن فيض السعادة الغامر الذي انتشر كالنار في الهشيم في روحه الفتية ناجم عن أن الصراع في داخله بين أفكار متناقضة ومتضاربة قد انتهى وحسم.

شعر بجوع فذهب إلى المطبخ الصغير ليرى ما يمكن أن يجده من مواد للفطور... وجد بقايا جبنة كرافت، قليل من الزبدة وصمونة.

بعد الانتهاء من الإفطار ارتدى ملابسه وترك المنزل قاصدا ساحة الطيران، التي لم تكن تبعد سوى عشر دقائق مشيا على الأقدام. كان الطقس بهيا صافيا، شمس ربيعية، تضيء المدينة برمتها، تشعل بغداد العاصمة بدفئها المحبب وبحركة الناس التي لا تنقطع في مثل هذه الساعات.

تملكه إحساس جامح أنه الآن يمسك الثور الذي تستقر الكرة الأرضية فوق رأسه من قرنيه، وأن الأشياء، كل الأشياء إنما خاضعة لسيطرته هو تماما،،، وأن الحياة تماثل برعما آخذ بالتفتح وأن لا شيء يمكن له أن يوقف هذا التفتح المبهر وهذه الانعطافة الجديدة، الجذرية في حياته. لم يك يتجاوز السابعة عشرة من عمره بعد. قليل التجربة، عوده غض لم يتقو بعد ولم تصلبه التجارب الثقيلة والعصيبة، لذا شعر بقوة لا حدود لها تطفح في قلبه الصغير وتغرقه بمشاعر إيمان راسخ غير قابل للتزعزع بما صار يؤمن به إيمانا لا يقربه الشك.

في ذلك اليوم اتخذ قرارا راسخا مفعما بقناعة صلدة مثل حجر صوان، أن يتصل بصديقه ويطلب منه ترشيحه للحزب. كأن الأمر في داخله قد حسم، وعذاب التأرجح القلق المضني للغاية والمرهق جدا قد انتهى واستحال إلى قناعة عميقة راسخة الجذور في اعماق عقله وامل لا حد له وإيمان دافق ومتفجر كأنه قدر حتمي لا مرد لمشيئته.

كلما عنت بذاكرته تفاصيل ذلك اليوم الغابر، الساحر من أيام صباه ومراهقته، اليوم الذي غير مجرى حياته على نحو لا رجوع فيه قط،  عاد أيضا، تماما مثلما كان حينذاك، فتى يافعا يمسك بخيوط اللعبة كلها، كما خيل له في تلك الساعات المدهشة المفعمة أملا وحيوية صاخبة وتفاؤلا لا حد له، عاد مراهقا ينحني له العالم برمته ويسجد تحت قدميه مثل عبد مملوك.