مذكرات نصير/ج٢ / مؤيد بهنام                                        

كنت قبل عام قد نشرت الجزء الأول. وأحداثه تدور في مقر الفوج الأول " مراني " ساعات قبل اندلاع المعارك مع قوات النظام والجحوش التي كانت متوجهه لاحتلال مقر مراني الجميل...
حيث أنهيت الجزء الأول بحوار جرى بيني وبين الرفيق ابو طويلب ونحن نحتسي قدحين من الشاي الساخن في ساعات الفجر الأولى من شهر يناير ١٩٨٥ أو ١٩٨٦ فلست متأكدا من السنة تماما.

تطلعت بحنية غضة إلى ابو طويلب وهو يختفي بقامته الطويلة والرشيقة في زحام المطبخ الذي عج وضج بحركة الرفاق وصخبهم وأصواتهم التي بدأت تتعالى شيئا فشيئا.
ودون إرادة مني أنهمرت تداعيات ماضية في قحف رأسي المتعب....
وفجاءة اشتعلت صورته في ذهني وتوهجت كالبرق،،، ها هو يمسك بالدف بيد، ناقرا عليه برشاقة بأصابع يده الاخرى، وعلى سحنته انسابت قطرات عرق غزيرة، وهو يدور بنشوة هائلة ومفرطة، ناقرا الدف باصابعه الرقيقة التي بدت وكأنها مخضبة بالحناء، فيما اخذت حمى انفعالاته تتصاعد في انبثاق طفولي جنوني، قفزاته الراقصة وغناؤه المتصاعد من حنجرته أشعل الحمية في نفوسنا، فتحلقنا معه، وهو يرتقي بنا، شعوريا، بانفعالته وحركاته الراقصة الخلابة نحو سماء انطلاقته الجنونية.
ف ابو طويلب ما أن يصرعه شيطان الرقص والغناء، ويستحوذ على قلبه وروحه، يتدفق صوته المنشد الحاد والرفيع، مخترقا الفضاء، كسهم طائش.
ها هو الان يدور حول نفسه دورات متعاقبة سريعة، بادءا كل دورة بضربة رشيقة من قدمه اليمنى على أرض القاعة. وحنجرته تصدح بصوته الذي يفيض حبا وجمالا.

- هبوا...هبوا..هبوا

ونحن نردد بعده نفس الكلمات على ذات النغمة راقصين معه بانطلاق عبثي غير محدود.
وبخفة راقص بارع، يتقن هوايته، يعيد دورانه السريع، المتعاقب حول نفسه، حتى يبدو وكأنه في تحليق دائم، كنسر يبحث عن فريسته، فلا تستقر قدماه على الأرض. ويعاود ويصرخ فينا :

- ضحايا الاضطهاد..ضحايا جوع الاضطرار....بركان يا خالي..

ينشد ابو طويلب النشيد الأممي بلحن وبايقاع شعبيين، لا علاقة لهما باللحن الأصلي.
وباكتمال المقاطع تتسع وتتفافم دورة الهيجان الروحي في قرارة ذاته وتتطوق بهالة صاخبة من النشوة البشرية، فيبدو بحركاته التي يتقنها ويتفنن بها وكأن روحه صعدت الى عالم ثان غير محسوس.
وحين يختلط صوته بأصواتنا نحن المتحلقين حوله، وقد مسنا خيط جنونه، يفيض المكان بفرح سماوي هادر، وابو طويلب يدور على نفسه ويدور، كأنه منقطعا عن هذا العالم المحسوس، ويصرخ بنبرة لا قرار لها :

- شد....شد !

والجميع يصرخون معه مواكبين إيقاعه الصاعد المضطرم :

- شد....شد

وكلما اخترق الهتاف الجماعي اذنيه، ينتفض ابو طويلب بحدية اكبر، كان روحه تبعث من جديد، تتصاعد مشاعره إلى ذراها السامقة.

ان رأسه يترنح الان بخفة طليقة في جميع الاتجاهات، ثملا من نشوة صاعقة وفرح غامر. وعلى نفس الذبذبات يهتز بدنه بانسياب انيق وفاتن، فتتشكل من وهج غنائه ورقصه، سعادة غامضة تغرق المكان والزمان ببهجة لا حدود لها.

عاد ابو طويلب ليجلس لصقي، تحت شجرة الجوز الضخمة الوارفة، في مقر مراني، وقدم لي قدح الشاي. تطلع إلي بحنو وبنظرة متسائلة، فيما طغت ابتسامة عريضة على شفتيه. أيقنت لحظتها أن ابو طويلب قد عرف سري، واكتشف ما كنت افكر به.

ملاحظة :
الرقصة والغناء حدثتا في قاعة فصيل الحماية في مقر قاطع بهدينان..

 

مؤيد بهنام/ ابو نسرين ف