مذكرات نصير زيوة -  مقر قاطع بهدينان / مؤيد بهنام                  

مساء عادي جدا في شتاء قارس جدا/

مساء عادي جدا جدا... هذا اذا غضضنا التفكير عن قساوة استثنائية وسادية في ذلك الشتاء وبرودته الفضة الموجعة، مثل سكاكين تقطع أجسادا بريئة...وإذا أضفنا إلى المشهد الذي جثم على ارواحنا كميات الثلج الهائلة التي تساقطت بلا رحمة بنا وبدون إنقطاع على مقرنا الصغير وعلى المنطقة برمتها، فإن اللوحة المرعبة ستكتمل ملامحها تماما.

لا غرابة إذن إذا ما هيمن اللون الابيض آنذاك وسيطر على المشهد مكتسحا تقريبا كل الالوان الأخرى على السفوح والمنحدرات الجبلية وغطى حتى الأشجار بندفه الساطعة، الساقطة من عمق السموات في بياضها الذي يعشي الأبصار أحيانا.

نعم لم يكن ذلك المساء سوى مساء عادي جدا إلى أقصى حد لو غضضنا الطرف عن شتاء نفث في اسابيع قليلة برودة مئات السنين، زرقها في اوردتنا مثل مصل سام .

لربما فقط الذين عاشوا التجربة بمقدورهم ان يلتقطوا بخفة  المعنى الساخر والخفي بين طيات هذه العبارة : " مساء عادي جدا ".

نعم كالعادة فإن  الظلام لما أرخى سدوله، وجميع فعاليات النهار، من خبز وطبخ وتحطيب وغيرها قد آلت إلى نهاياتها، لم يعد للرفاق سوى الإنسحاب إلى قاعة الفصيل كما هو دأبهم  كل مساء.. الانسياب إلى حيث الدفأ والراحة،،، لأن قاعة الفصيل تستحيل كل مساء إلى ما يشبه المنتجع، منتجعا تتطهر في اتونه النفوس التعبة من ادرانها ومما علق باعطافها من شقاء اليوم وعنائه. تنسل النفوس إلى داخل قاعة الفصيل طمعا في هدأة واستراحة لذيذتين لا بد منهما بعد عناء وكدح مجهدين ومرمضمين طيلة النهار، وطمعا في أحاديث متفرقة جميلة، رقيقة، شفافة بل وأحيانا ساحرة هنا وهناك...أحاديث عن الحزب والسياسة والحرب والحب والجنس والشعر والأدب..أو مجرد مناكدات وممازحات صغيرة، على شكل دعابات ومكائد بريئة، لربما عبر استعادة حوادث النهار واحاديثه وقصصه، ترتيبها وتفسيرها بطريقة مغايرة تعطي لما حدث وما قيل معنى مختلفا تماما، بقصد إثارة العنعنة والفرح والمرح لا أكثر. أو استعادة التأريخ، تاريخ عشرات القصص والحيوات التي لم يبق منها سوى أنين صداها الخافت. قصص البيت او المدرسة أو الجامعة أو القصص الحزبية. قصص العشق الورعة، وممارسات الجنس الخفية الشحيحة. قصص ركنت في رفوف الذاكرة المحاصرة  بقمم الجبال الشاهقة العصية واشباح الموت القابعة في كل زوايا الأمكنة ، معفرة بغبار النسيان الخفي، تعود إليها الحياة، فتروى على شكل ومضات تعيد لنا الزمن الرخيم الذي اضحى مندسا في ثنايا أرواحنا مثل ذاكرة شائكة، وعرة أو عمياء.

لقد داهمنا ذلك الشتاء، على حين غرة، ببرودته القاسية، وبجحافل ثلجه الهابطة من جحيم السماء المكفهرة بكثافة وغزارة نادرتين. لم نكن قد جمعنا، قبل حلول فصل الشتاء، من الحطب كمية تتناسب وحجم المأساة الطقسية التي كانت بانتظارنا. ومن أين لنا أن نستشرف ما سيكون عليه الطقس شتاء ؟! لكن لكي تستمر الحياة، كي لا نموت من الجوع والبرد، كنا مجبرين أن نذهب مسافات طويلة، لنقوم بعملية قطع الأشجار، وهي عملية مجهدة ومرهقة للغاية.  لم تكن بحوزتنا غير مناشير التقطيع اليدوية، وسواعدنا المتعبة اصلا وظهورنا المنهكة الممسوسة بصلابة الجبال وصمت والوديان وثقل اوهامنا. تنتهي عملية التحطيب، بعملية اخرى، اذ لابد من نقل جذوع الأشجار والاغصان الثقيلة إلى المقر والى فصيلنا. الحق ذلك إنما كان أشبه بعمل إضافي لكن وزره كان ثقيلا على أجسادنا وأرواحنا الغارقة في لجج رومانسيتها الثورية. انه لتناقض مروع.

الان نجلس في القاعة، قاعة فصيل الحماية...ننتظر أن يتخدر الشاي في القوري المستقر على سطح المدفأة وهي تنشر حرارتها الساحرة في زوايا القاعة فتبعث في الاجساد والاوصال خدرا لذيذا، وتفجر شهوات وأحلام مستترة لا تكاد تخرج من مكامنها، غير عابئين بالشتاء وبغدره لنا بتاتا..الإرهاق والتعب يتفشيان، كنبيذ لذيذ المذاق، في الأجساد الكليلة والنعاس يغشي عيون البعض منا متطامنا مع أحلام نعرف أنها صعبة المنال. الفجر القادم سيكون أجمل وأرق حتما..هذا ما راود مخيلاتنا... نعم لابد أن يكون الغد أجمل...حدث هذا قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمان. اعتقد في شتاء عام ١٩٨٥...هكذا كنا في ذلك الزمان...زمن الرومانسية الثورية وما تفجره فينا من طاقات شبه أزلية كأنها لن يصيبها نضوب او عطب يوما ما أبدا.

 

نسيت ان أذكر حادثين صغيرين مهمين وقعا ذلك النهار أثناء عملية التحطيب :

سقط غصن كبير على أحد الرفاق فشج جبهته فنزف دما غزيرا حارا في درجات حرارة تزيد على العشرة تحت الصفر " ضريبة صغيرة من ضرائب الكفاح المسلح ". هكذا علق أحد الرفاق من الذين كانوا معنا، بسخرية لاذعة.

حين رجعنا إلى القاعة بعد الانتهاء من مشقة التحطيب كتم أحد الرفاق الآلام المتفجرة في أطراف أصابعه المتجمدة، حبس باباء دموعه الساخنة، لعق هزيمته الآنية ومحنته إمام جبروت الطقس ووحشيته وهمجيته، حفاظا على كرامته وانسانيته ووجوده !