مذكرات نصير.ح الخامسة / مؤيد بهنام                                  

الإنسحاب/٥

حينما انتهى مهرجان الاحتفاء الرخيص والمبتذل باستقبالنا، وتم لسلطات الجمهورية الإسلامية في ايران، إشهار انسانيتها المبهرة أمام العالم، عبر مسرحية كوميدية بائسة، كنا فيها، نحن والصحافة وممثلي بعض المنظمات والصحف الدولية، متفرجين مغلوبين على أمرهم، صعدنا في الباصات التي كانت تنتظرنا.

فكرت، هل يعقل انني اركب حافلة نقل حديثة بعد انقطاع سنوات، لم نكن نستخدم فيها سوى البغال وفي الغالب فإن أقدامنا كانت وسائط نقلنا الرئيسية !

حافلة تسير في طرق اسفلتية معبدة تنتشر أرصفة على جانبيها، وتمر بمدن فيها بيوت وأسواق تعج بالناس. عودة سريعة للحضارة، بعد انقطاع دام خمس سنوات. اندلعت في عمق دواخلي احاسيس غريبة ومتناقضة، توزعت بين الحزن والأسى بسبب المآل الذي انتهت إليه حركة الانصار، ومشاعر فرح وسعادة غامرة لكوننا في بداية طريقنا للعودة لحياة طبيعية. لا جبال ولا طرق جبلية وعرة شاقة، لا بيوت مبنية من الحجر الجبلي والطين وجذوع الشجر. طرق تسير فيها الحافلة بأمان تام ولا حاجة لأعمال الرأي بالتفكير بأية مخاطر محتملة من عدو يطاردك ويحصي عليك انفاسك ليل نهار. 

أتذكر أن الحافلة التي كانت تقلنا توقفت في إحدى المدن الصغيرة، بسبب عطل ما، أمام مطعم للمشويات، فبدأ لعابنا يسيل من المنظر العادي البسيط الماثل أمامنا. أمن المعقول أن يثير منظر عادي جدا كهذا لمطعم مشويات هذا الكم الهائل الكثيف من تداعيات بشرية تشبه نزيف داخلي لا يتوقف !

امن المعقول أن المشاعر الصاخبة لكن الصامتة تتفجر في داخلنا الأن كدمل صغيرة فتربك أرواحنا وتزعزع مستقراتها واسسها بهذا الشكل الفادح والمروع. أهي مؤثرات الصدمة الأولية، صدمة الانتقال المباغت من حياة بدائية بسيطة إلى حدود الجمال والقسوة اللامتناهية، حياة خطرة في أحايين ليست قليلة، إلى حياة طبيعية في كنف المدن، بين أناس يعيشون حيواتهم على نفس النمط ويبتلعهم غول المدن يوميا.

توقفت الحافلات التي كانت تقلنا في منطقة تحمل نفس اسم القرية التي كانت تقبع في أعلى سفح مقر قاطع بهدينان، زيوة !

حالما ترجلنا من الحافلات، استقبلنا الرفيق ابو علي مشمش. قدم لنا شرحا مفصلا عما حصل لهم، عن حالة السوق، وعرفنا منه اننا سننام في ألخيام !

لقد انتهت مراسيم استقبالنا الرسمية. الحقيقة الناصعة ان السلطات الجمهورية الإسلامية في ايران لم يكن هدفها في الجوهر الاحتفاء بنا كلاجئين، وإنما الاحتفاء بالصحافة والمنظمات الدولية التي تابعت عن كثب آنذاك مصائرنا.

وبعد الانتهاء من تلك المراسيم شرعت بمعاملتنا كمواطنين من درجات أدنى ! حقيقة سنتكتشف لاحقا تجلياتها بأشكال وأساليب عديدة ومتنوعة.

الحقيقة لا أتذكر كم من الأيام سكنا في الخيمة، إلى أن حصلنا على غرفة صغيرة نتنة في مجمع سكني قديم وبالي ، احتوتنا جميعا، أنا وسمر، ابو علي وام علي وطفليهما، مشمش وسمسم، وعمودي كان معنا أيضا، لأننا قررنا العناية به، فقد كان لم يزل متعبا ومرهقا للغاية من نتائج الضربة الكيمياوية التي تعرض لها مع رفاق آخرين في مقر قاطع بهدينان، إضافة إلى أنه كانت هناك شكوك انه مصاب بمرض السل المتحجر.

يتبع/

مؤيد بهنام