مذكرات نصير / مؤيد بهنام                                             

الإنسحاب/٣

من نصير مقاتل مدجج بالسلاح وبنطاق محمل بعتاد وبقنبلتين يدويتين يحيط بالخاصرة على الدوام، تحت خيمة حزب عريق، تشعر في ظلها بأمان شامل وغامر، وفي حماية وصحبة رفاق اشداء ومناضلين يمنحونك ألفة ومودة ودفء بشري يستعصي على الوصف، الى مجرد لاجيء لا حول له ولا قوة، في دولة غريبة لا تعرف ناسها وارضها ولا لغتها!

رغم  هذا الإحساس الفادح الذي فاض في ارواحنا، فإني  أتساءل، مع ذلك، من أجل الحقيقة لاغير، لو لم تفتح الدولة التركية حدودها لنا آنذاك فإلى أي نتيجة كانت مصائرنا ستنتهي ؟ ونحن نعلم بيقين مطلق أن الجيش السلطوي حينذاك كلف  بمحق ومحو أي شكل من أشكال الحياة بلا رحمة ولم يكن يرعوي من ارتكاب أبشع المجازر بحقنا وبحق الشعب الكردي.

سجلنا لدى السلطات التركية على اننا جئنا من مختلف القرى الكردية حالنا حال أبناء تلك القرى.

الوحيد الذي خرج عن هذا السياق هو الرفيق ابو علوي. فعندما وجهوا له ذات الأسئلة اجابهم بلا تردد بانه مقاتل من الحزب الشيوعي !

وعندما طرحنا السؤال على ابو عليوي :

- ليش فضحت روحك ؟

اجابنا بأسلوبه الساخر التهكمي المعروف :

- بشرفكم اني امبين عليه جني كردي، او واحد من أبناء القرى ؟ جا همه ما يعرفون اكو شيوعين بالجبل صارلهم سنين يقاتلون صدام وربعه..  جا بعد عليمن الجذب..

غير أن اعتراف الرفيق أبو عليوي الصريح لم يكن له أية تبعات سلبية  ومر بسلام. ما أتذكره بعد ذلك هي مشاهد ضعيفة وشاحبة جدا ولست واثقا من تسلسلها الزمني. أتذكر انهم جاؤوا بسيارات كبيرة ( لوريات ) كدسونا فيها كما تكدس قطعان الماشية، سارت بنا ساعات طويلة إلى أن رمينا في سهل مكشوف محاط بالجبال في منطقة تسمى، كفر، بتشديد الكاف.

أصبحنا ناكل ونشرب وننام ونقضي حاجاتنا اليومية في العراء الفسيح في تلك المنطقة المنبسطة العارية من اية حمايات أو موانع طبيعية. في الليل تنخفض درجات الحرارة إلى الحد الذي يتسرب فيه زمهرير البرودة القاسي في عظامنا ويكاد يفتتها. أتذكر أن الرفيقين ابو علي وام علي جعلا يحيطان بطفليهما، مشمش وسمسم، أثناء النوم، بعد تغطيتهما بما لديهما من بطانيات، أو لربما كانا ينامان فوقهما احيانا، من أجل ألا يتجمد جسدي الطفلين الغضين.

في منتصف النهار تأتي سيارات حمل كبيرة لتلقي لنا الخبز وبعض المؤونة وكان علينا أن نكون على أهبة الإستعداد لكي نظفر بحصتنا. ان الصراع الغريزي من أجل البقاء يحول المرء إلى مكافح من نوع آخر. يحوله إلى ما يشبه النمر وهو يسطو بدافع غريزته على فريسته، قطعة خبز أو حبن، مثلا.

ان في تلك اللعبة آنذاك، لعبة البقاء وعدم الفناء، بالنسبة لاناس من شاكلتنا، شيء من الاذلال، إحساس مقيت وبغيض، وإلى حد ما مهين أيضا. هل كنا نستحق مثل هذه النهاية ؟

وأين ذهبت تضحيات الجميع ؟ من ضحى بنفسه، بعائلته، بحبيبته، بزوجته، بابنائه، بدراسته، أو من ضحى بكل شيء تقريبا ؟!

ان تكون مناضلا بيدك سلاحك، تكر وتفر، تظهر وتختفي، متى تشاء وتقرر، الفكرة والتخطيط والقرار طوع بنانك، دليل على انك حر بمعنى من المعاني. اما أن تغدو لاجئا، وبهذه الطريقة البائسة والمذلة، فهذا يعني أن زمام المبادرة إنما صار بيد آخرين، ودليل على أن حريتك النسبية صارت في خبر كان.

منطقة كفر، سهل منخفض موحش، كئيب وفض وبائس بكل معنى الكلمة.

شبح المخابرات التركية لم يكن غائبا ابدا في مخيم كفر. في نفس الوقت فإن بعض المنظمات الإنسانية والإعلامية أصبح لها حضورا واضحا وجليا للعيان، من خلال بعض المندوبين والمراسلين.

ان تعيش المأساة من بدايتها بكل تفاصيلها الصغيرة، الكثيرة والكثيفة، أن تكون جزءا حقيقيا منها، ثم، فيما بعد،  تصبح مجرد خبر في إذاعة وعنوانا في إحدى الصحف هما امران مختلفان لا يجمعهما جامع، وفيه شيء من شماتة كريهة لا تحتمل . فعندما تختزل مأساة شعب باكمله في أخبار موجزة وعابرة، وتقع الحقوق العامة الأصيلة لهذا الشعب في حلبة صراع المصالح الدولية والإقليمية، إنما يعني أن القضايا والحقوق العادلة تستغل لمارب خاصة بأطراف الصراع الدولي والإقليمي.

واكثر إعلام فداحة وايلاما حقا جاء عبر راديو موسكو، حيث اتخذ ذلك الاعلام موقفا صريحا جدا إلى جانب النظام الفاشي ضد مأساة وجريمة التهجير، مستخدما نفس الحجة المهلهلة الواهية، والمضللة، حجة ان النظام معادي للمصالح الإمبريالية في المنطقة ! السهام التي تأتي من الاقربين هي الأكثر إيلاما ووجعا وفتكا بلا شك. انها حقا بمثابة طعنة خنجر في الظهر تأتيك من أقرب واعز صديق على النفس.

تم توزيع خيم كبيرة علينا، تتسع لثمانية أشخاص على ما أتذكر. اي أن الأوضاع السكنية تغييرت نحو الأفضل.

يتبع /